Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 18-27)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ مَّن كَانَ } منهم { يُرِيدُ } اللذات { ٱلْعَاجِلَةَ } والشهوات الفانية الزائلة { عَجَّلْنَا } وأعطيناه { لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } أي : في النشأة الأولى ابتلاءً له ، واختباراً وتلبيساً عليه واغتراراً ، مطلعون على ما في سه وضميره { ثُمَّ جَعَلْنَا } وهيأنا في النشأة الأخرى { لَهُ جَهَنَّمَ } منزل الطرد والحرمان ، حال كونه { يَصْلاهَا مَذْمُوماً } مشئوماً محروماً { مَّدْحُوراً } [ الإسراء : 18 ] مطروداً مقهوراً . { وَمَنْ أَرَادَ } منهم بامتثال الأوامر المتعلقة لمصالح الدين ، وباجتناب نواهيه { ٱلآخِرَةَ } أي : اللذة الأخروية الأبدية { وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا } أي : حق سعيها على مقتضى الأمر الإلهي { وَ } الحال أنه { هُوَ } في حال السعي والاجتهاد { مُؤْمِنٌ } موقن ، مصدق بوحدانية الله ، وبما جاء من عنده على رسله ، بلا شوب تزلزل وتردد { فَأُولَئِكَ } السعداء المقبولون { كَانَ سَعْيُهُم } واجتهادهم في امتثال الأوامر ، واجتناب النواهي { مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 19 ] مقبولاً مستحسناً ، وعملهم مبروراً ، وجزاؤهم موفوراً ، وهم صاروا في دار الجزاء مغفوراً مسروراً . { كُلاًّ نُّمِدُّ } أي : كل واحد من الفريقين المطيع والعاصي نُيسر ونوفق على مقتضى ما يهوى ويريد { هَـٰؤُلاۤءِ } المؤمنين المطيعين ، توفقهم على الطاعات ، ونجنبهم عن المعاصي { وَهَـٰؤُلاۤءِ } الكافرين العاصين ، نُيسر لهم ما تميل إليه نفوسهم من الأهوية الفاسدة ، والآراء الباطلة ؛ إذ كلٌّ ميسر لما خلق له . كل ذلك { مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل الذي ربَّاك وجميع عباده بأنواع اللطف والكرم { وَ } كيف لا ييسر لهم سبحانه ، ولا يوفقهم ؛ إذ لا رازق لهم سواه ، ولا معطي لهم غيره ؟ ! لذلك { مَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } [ الإسراء : 20 ] ممنوعاً عن الكافر لكفره وعصيانه ، موفوراً على المؤمن لإيمانه ، بل لا يعلَّل فعل بالأعراض والأعواض مطلقاً ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد إرادةً واختياراً . والتفاوت الجاري بين عباده إنما هو لحكمةٍ ومصلحةٍ استأثر الله به في غيبه ، لا اطلاع لأحدٍ عليه ؛ لذلك قال : { ٱنظُرْ } أيها الناظر المعتبر { كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ } في النشأة الأولى بالمال والجاه ، والثورة والرئاسة { عَلَىٰ بَعْضٍ } مبتلى بالفقر والمسكنة ، وأنواع المذلة والهوان { وَلَلآخِرَةُ } المعدَّة للذات الروحانية ، والحقائق والمعارف ، والمكاشفات والمشهادات { أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ } لبقاء ذاتها أبد الآباد { وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 21 ] من فضل المستعار الفاني الزائل بسرعة . ومتى اعتبرت أيها المعتبر ، وتأملت ما فيه من العبر { لاَّ تَجْعَل } ولا تتخذ { مَعَ ٱللَّهِ } الواحد الأحد ، المتعزز برداء الفردانية { إِلَـٰهاً آخَرَ } كفؤاً له ، يُعبد بالحق مثله ، وكيف تجعل وتأخذ ربّاً سواه ؛ إذ ليس في الوجود إلاَّ هو { فَتَقْعُدَ } بعد جعلك واتخاذك إلهاً سواه خائباً خاسراً ، بل { مَذْمُوماً } عند الملائكة وجميع النبيين { مَّخْذُولاً } [ الإسراء : 22 ] عند الله يوم العرض الأكبر ؟ ! . { وَ } كيف تتخذ إلهاً سواه ، مع أنه { قَضَىٰ رَبُّكَ } وحكم حكماً مقطواً مبرماً { أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ } أي : بألاَّ تعبدوا أيها البالغون لحد التكليف { إِلاَّ إِيَّاهُ } إذ لا مستحق للعبادة والانقياد سواه ؛ إذ هو المستقل بإيجادكم وإظهاركم بلا مشاركة ومعاونة ، فعليكم أن تعظّموه وتوقّروه ، وتذللوا نحوه غايى التذلل والخضوع . { وَ } أن تسحنوا { بِٱلْوَالِدَيْنِ } اللذين هما السبب الظاهري لتربيتكم وظهوركم { إِحْسَاناً } سلساً طلقاً فرحاناً ، بلا شوب المنة والأذى ، سيما { إِمَّا يَبْلُغَنَّ } أي : أن يبلغن { عِندَكَ } أيها الولد { ٱلْكِبَرَ } أي : سن الكهولة ، بحيث عجز عن خدمة نفسه { أَحَدُهُمَا } أي : أحد الوالدين { أَوْ كِلاَهُمَا } معاً { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ } في جميع الأحوال ، سيما عند الكبر والكهولة : { أُفٍّ } أي : صوتاً شديداً دالاً على تضجرهما وردعهما { وَ } إن خرجا عن مقتضى العقل ، وفعلا فعلاً يجب لك صرفهما عنه { لاَ تَنْهَرْهُمَا } ولا تقهرهما زجراً عليهام { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } [ الإسراء : 23 ] . { وَ } بالجملة : { ٱخْفِضْ } وابسط { لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ } والتواضع والمسكنة { مِنَ } كمال { ٱلرَّحْمَةِ } والشفقة عليهما { وَ } لا يقتصر على الخفض والشفقة الدنيوية ، بل { قُل } لهما ولأجلهما مناجياً مع الله : { رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا } على مقتضى رحمتك الواسعة ، وجودك الشامل { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 14 ] أي : ارحمهما بفضلك ، مثل رحمتهما وتربيتهما إياي في حال صغري وطفولتي . فعليكم أن تكونوا في دعائهما على العزيمة الصحيحة ، والمحبة الخالصة ، بحيث يكون بواطنكم موافقة لظواهركم ، مثل تربيتهما إياكم حالة صغركم ، ولا تتمنوا موتهما في قلوبكم ؛ إذ { رَّبُّكُمْ } المطلع على سرائركم { أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ } من ابتغائكم موتهما ، أو برهما وتكريمهما ، فالله سبحانه يعفو عنكم ، ويقبل توبتكم { إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ } مصلحين ما فوّتم وأفسدتم على نفوسكم من حق تعظيمهما وتوقيرهما { فَإِنَّهُ } سبحانه من كمال جوده وفضله { كَانَ لِلأَوَّابِينَ } الرجَّاعين إليه سبحانه ، النادمين بما صدر عنهم من المعاصي ، سيما ما يتلعق بعقوق الوالدين { غَفُوراً } [ الإسراء : 25 ] يغفرهم ويتجاوز عنهم . { وَ } لا تقتصر أيها الولد على تعظيم والديك فقط ، بل عليك تعظيم كل من ينتمي إليك من قبلهما ؛ لذلك { آتِ } وأعط { ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ } أي : حق تواضعهم وتوقيرهم إن كانوا إغنياء ، وأنفِق عليهم إن كانوا فقراء { وَ } آت من زكاة أموالك ، وفواضل صدقاتكم { ٱلْمِسْكِينَ } الذي لا يقدر على قوته وقوت عياله { وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } أيضاً الذي يبعد عن بلده ، ولس معه مؤنة معاشه ، وكن في إنفاقك مقتصداً معتلاً { وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } [ الإسراء : 26 ] أي : لا تسرف إسرافاً مفرطاً خارجاً عن حد الاعتدال ، سيما فيما لا يعني وينبغي ؛ إذ التبذير والتقتير كلاهما مذموم عقلاً وشرعاً . لذلك قال سبحانه : { إِنَّ ٱلْمُبَذِّرِينَ } المسرفين أموالهم رياءً وسمعةً { كَانُوۤاْ إِخْوَانَ ٱلشَّيَاطِينِ } أي : أشباههم وأتباعهم في صرف الأموال الموهوبة من الله إلى غير المصرف و غير المستحق من المصارف ، بل صرفوها إلى المحظورات والمكروهات ، بإغواء الشياطين وإغرائهم { وَكَانَ ٱلشَّيْطَانُ } الغوي الطاغي { لِرَبِّهِ كَفُوراً } [ الإسراء : 27 ] لنعم الله ، فيغري أتباعه إلى الكفران أيضاً .