Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 84-97)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أخبر عنه سبحانه بقوله : { إِنَّا } من مقام عظيم جودنا وفضلنا { مَكَّنَّا لَهُ } وقدرناه { فِي ٱلأَرْضِ } تمكناً تاماً وقدرة كاملة { وَ } ذلك { آتَيْنَاهُ } أعطيناه تأييداً له وتعضيداً { مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } [ الكهف : 84 ] موصلاً إلى مبتغاه وما أَمِلَه ؛ يعني : وفَّقنا وهيأنا أسبابه للوصول إلى كل مطلوبٍ قَصَدَه وأراد الوصول { فَأَتْبَعَ سَبَباً } [ الكهف : 85 ] حتى ارتكب أمر الوثوقة واتكاله علينا ، وبإنجاحنا إياه إلى مبتغاه . ثم لما أراد أن يسير نحو المغرب ، فاتبع سببه وسار { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ ٱلشَّمْسِ } أي : موضعاً تغيب الشمس فيه ؛ يعني : لم يبلغه حقيقةً ، وإنما بلغ قوماً ليس وراءهم ؛ أي : نهاية حد العمارة من جانب المغرب على ساحل المحيط { وَجَدَهَا } أي : الشمس { تَغْرُبُ } وتغيب { فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } أي : ذات حمأة وهي الطين والماء ، وقرئ : " حمية " أي : حارةٍ . ويجوز أن يكون عيناً ذات حماءةٍ حرارةٍ ، يعني : غروبها في رأي العين على عين صفتها هذه ، وإلا فلا تسع الشمس في جميع كرة الأرض ، فكيف بجزءٍ منها ؛ إذ نسبه كرة الأرض إلى عظم جرم الشمس عند أهل الرصد كنسبةِ جزءٍ من مائةٍ وست وستين جزءاً . { وَوَجَدَ عِندَهَا } أي : عند العين الموصوفة { قَوْماً } كفاراً نافين للصانع الحكيم ، لباسُهم جلود الوحوش وطعامهم ما لفظ البحر بالموج من أنواع الحيوانات الميتة ، فلما وصل ذو القرنين إليهم ووجدهم كفاراً ، خيرناه في أمرهم عنايةً منا بأن { قُلْنَا } له وألهمنا عليه منادياً : { يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ } لك الخيار في شأن هؤلاء الكفار { إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ } أي : تهلكهم وتستأصلهم بكفرهم ؛ بيحث لا يبقى منه أحد { وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ } وتصنع { فِيهِمْ حُسْناً } [ الكهف : 86 ] شرعاً وديناً كما في سائر المؤمنين . ثم لما خُيّر ذو القرنين في أمرهم ، وفُوِّض أمرُهم إليه : { قَالَ } على مقتضى العدل والإنصاف الذي جبله الحق عليه : ادعوهم أولاً إلى الإيمان ، وألقِ عليهم كلمة التوحيد والعرفان : { أَمَّا مَن ظَلَمَ } واستعلى وأبى وأصرّ على ما عليه من الكفر منه والهوى { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } أي : نقتله حداً بعد عرض الإسلام ، ولم يقبل في دار الدنيا { ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ } في يوم الجزاء { فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } [ الكهف : 87 ] شديداً مجهولاً لا يعرفه أهل الدنيا . { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ } منهم { وَعَمِلَ } على مقتضى الإيمان عملاً { صَالِحاً } فنصلح حالهم ، ونراعيه في الدنيا { فَلَهُ } في يوم الجزاء عند واهب العطايا { جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ } والمثوبة العظمى والدرجة العليا والجزاء الأوفى { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا } الذي أمرنا بالتخير في أمر أولئك الهالكين في تيه الغواية { يُسْراً } [ الكهف : 88 ] سهلاً معتدلاً بين إفراط القتل والاستئصال ، وتفريط الإبقاء على الكفر والضلال مداهنةً . { ثُمَّ } بعدما وضع بين أهل المغرب الشرعَ بالأمر الإلهي { أَتْبَعَ سَبَباً } [ الكهف : 89 ] آخر يوصِله إلى المشرق ، وسار { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ ٱلشَّمْسِاً } ومضع شروقه وإضاءته على العالم { وَجَدَهَا تَطْلُعُ } وتضيء أولاً { عَلَىٰ قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْر } [ الكهف : 90 ] يعني : لم نجعل لهم حائلاً كثيفاً وحجاباً غليظاً ؛ ليكون ستراً لهم من حرّ الشمس وقت طلوعها لا من الجبل ولا من الحجر والشجرة وغيرها ، بل كلهم عزلُ عراةُ لا لباس لهم أصلاً ، وهم يحفرون الأرض ، ويتخذون سراديب وأخاديد يدل الأبنية ؛ لأن أرضهم لا تمسك النباء { كَذَلِكَ } أي : هم أيضاً كفارُ مثل أهل المغرب ، وهم أشدُّ الناس في الحروب والمعارك وأجرئهم على القتال والاقتحام في الوغاء ، ولهم آلاتُ واسلحة عجيبةُ وعُدَدٌ بديعة لا كمثل سائر آلات الناس وعُدَدهم ، وهم أكثرهم أيضاً عدداً . { وَ } مع كثر عددهم ومركهم وخداعهم { قَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } [ الكهف : 91 ] يعني : أعلمنا إسكندرَ ومن عنده من الجند والخدمة علماً بجال أعدائهم ، فقاتلوا معهم وغلبوا عليهم ، فوضع عليهم أيضاً شعائر الإسلام مثل ما وضع لأهل المغرب { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } [ الكهف : 92 ] ثالثاً ، وسار على العرض بين المشرق والمغرب . { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } أي : بين الجبلين اللذين سدَّ بينهما إسكندر بسدٍ منيعٍ ، وهما جبلا يأجوج ومأجوج { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا } أي : عندهما { قَوْماً } أعجمياً { لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ } ويفهمون { قَوْلاً } [ الكهف : 93 ] لغةً من اللغات المتداولة . { قَالُواْ } بلسان الواسطة والترجمان : { يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ } نحن أناس ضعفاء مظلومون نحتاج إلى إعانتك ؛ لتنقذنا من يد الظلمة { إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ } عَلَمَان للقبيلتين من الترك هما { مُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ } أي : في أرضنا هذه بأنواع الفسادات . قيل : كانوا يخرجون في الربيع فلا يتركون أخضر ربطاً إلا أكلوه ، ولا يباساً إلا حملوه ، وقيل : كانوا يأكلون الناس أيضاً . { فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } جُعلاً نوزع بيننا فيبلغ مبلغاً وافياً { عَلَىٰ أَن تَجْعَلَ } بسطوتك وسلطتك { بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً } [ الكهف : 94 ] منيعاً لا يمكنهم الخروج علينا فنأمن شرهم بجاهك . { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } أي : ما جعلني وخصني ربي بفضله وجوده مكيناً من المال والملك خير مما تجمعوت بتوزيعكم وتخريجكم ، ولا حاجة إلى أموالكم بل إلى إعانتكم وسعيكم أُجراء { فَأَعِينُونِي } في وضع هذا السد { بِقُوَّةٍ } أي : عملةٍ وصنَّاع يأخذون مني أجرتهم ويعلمون { أَجْعَلْ } بفضل الله وسعة جوده إن تعلق به مشيئته { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً } [ الكهف : 95 ] حاجزاً حصيناً منعياً وثيقاً ؛ بحيث لا يقبل التخريب إلى انقراض الدنيا . { آتُونِي } وأحضروا عندي أولاً { زُبَرَ ٱلْحَدِيدِ } أي : قطعها الكبيرة ، فَأتَوا بها فأمرهم بحفر الأرض إلى أن وصل الماء ، فوضع الأساس من الصخر النحاس المذاب حتى وصل وجه الأرض ، ثم أمرهم بتنضيد قطع الحديد بأن وضعوا بين كلا قطعتي الحديد فحماً وحطباً ، وأمرهم بارتفاعهم هكذا { حَتَّىٰ إِذَا سَاوَىٰ بَيْنَ ٱلصَّدَفَيْنِ } أي : بين جانبي الجبلين حتى امتلأ بين الجبلين ، وصار ما بينهما مساوياً للطرفين في الرفعة ، ثم أمرهم بوضع المنافع العظام من كلا طرفي السد . ثم { قَالَ } لهم : { ٱنفُخُواْ } فنفخوا { حَتَّىٰ إِذَا جَعَلَهُ نَاراً } أي : جعل المنفوخ فيه مثل النار في اللون الحرارة ، فاحترق الحطب والفحم ، واتصل بالزُبَر المحماة وبقيت فُرَجُ صغارُ إلى حيث لم تصل إلى الملاسة والاستواء { قَالَ آتُونِيۤ } نحاساً مذاباً { أُفْرِغْ } وأصب { عَلَيْهِ قِطْراً } [ الكهف : 96 ] حتى يصير ملساءً مسوى لا فُرجَ لها ، ولا يرى أوصالها أصلاً فصَبّ فاستوى فصار أملس كأنه لا فُرجَ فيه أصلاً . { فَمَا ٱسْطَاعُوۤاْ } أي : ما قدر يأجوج ومأجوج { أَن يَظْهَرُوهُ } ويصعدوا عليه ويعلوا لارتفاعه وملاسته { وَمَا ٱسْتَطَاعُواْ لَهُ نَقْباً } [ الكهف : 97 ] لعمقه وغلظة كننه .