Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 18, Ayat: 98-110)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

فلما تم السد واستوى { قَالَ } ذو القرنين مسترجعاً إلى الله شاكراً لأنعمه : { هَـٰذَا } أي : إتمام هذه السد على الوجه الأسَدّ الأحكام { رَحْمَةٌ } نازلةُ عليّ { مِّن رَّبِّي } إذ لولا توفيقه وتمكينه لما صدر عني بقوتي أمثال هذا { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } وقرُب قيام الساعة ، وظهر أماراتها وأشراطها . ومن جملة أماراتها : خروج يأجوج ومأجوج { جَعَلَهُ } سبحانه هذا السد السديد الرفيع { دَكَّآءَ } أي : مدكوكاً مسوى مفتتاً أجزاؤه ؛ بحيث لم يبقَ له ارتفاع أصلاً ، وهم حينئذ يخرجون على الناس { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي } بقيام الساعة واستواء الأ ض ، وكونها دكاً بحيث لا عِوجَ لها ولا أمتاً { حَقّاً } [ الكهف : 98 ] ثابتاً محققاً لا شبهة فيهز ثم قال سبحانه : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } اي : وبعدما جعلنا الأرض مبسوطة مدكوكة بمقتضى قهرنا وجلالنا ، وجعلنا السد السديد الرفعيت المنيع مسوى ، أخرجنا يأجوج ومأجوج بإقدارنا إياهم بالخروج ، وتركنا بعض الناس يموج ويزدحم ويدخل من صولتهم واستيلائهم بعضاً مضطربين ومضطرين ، { وَ } هم في ذلك الاضراب والتشتت من استيلاْ أولئك الظلمة القهارين القتّالين { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ } للحشر إلى المحشر وقامت الطامة الكبرى { فَجَمَعْنَاهُمْ } حينئذ ؛ أي : جميع الخلائق للعرض والحساب { جَمْعاً } [ الكهف : 99 ] مجتمعين في المحشر . { وَ } بعد جمعنا إياهم { عَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ } أي : يوم الحشر { لِّلْكَافِرِينَ } المعرضينَ المكذبينَ للرسل والكتب ، المنكرينَ ليوم العرض والجزاء { عَرْضاً } [ الكهف : 100 ] على سبيل الإلزام والتبكيت للقوم { ٱلَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ } في النشأة الأولى { فِي غِطَآءٍ } وغشاوةٍ كثيفةٍ { عَن ذِكْرِي } أي : عن آياتي الدالة على ذكري المؤدي إلى التفكر والتدبر في آلائي ونعمائي ، المؤدي إلى ملاحظة ذاتي المنتهية إلى المكاشفة والمشاهدة للمؤنين المؤَيدين من عندي ، المنجذبين نحو توحيدي { وَكَانُواْ } أيضاً { لاَ يَسْتَطِيعُونَ } ولا يقدرون { سَمْعاً } [ الكهف : 101 ] أي : إصغاءً والتفاتاً ؛ اي : استماع كلمة الحق لتعطيلهم من خبث فطرتهم وطينتهم نعمةَ الحق الموهوبة لهم لاستماع كلمة الحق وإصفاء دلائل التوحيد عن مقتضاها . ثم قال سبحانه على سبيل التقريع والتوبيخ للكفرة المشركين المتخذين آلهة سوى الله من مصنوعاته ومخلوقاته : { أَفَحَسِبَ } وظن القوم { ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ } وأشركوا بسبب { أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دُونِيۤ } مثل عزير وعيسى وجميع الأوثان والأصنام { أَوْلِيَآءَ } آلهة يعبدونهم كعبادتي أنا لا نأخذهم ولا ننتقم منهم في يوم الجزاء ؟ ! كلا وحاشا . وكيف لا نأخذهم { إِنَّآ } من كمال قهرنا وغضبنا على من أشرك بنا غيرناَ ، وأثبت إلهاً سوانا { أَعْتَدْنَا } وهيأنا { جَهَنَّمَ } البعد والخذلان الممتلة بنيران الحرمان { لِلْكَافِرِينَ } المعرضين عن مقتضيات آياتنا وكتبنا ورسلنا { نُزُلاً } [ الكهف : 102 ] أي : منزلاً معداً ينزلون فيها يوم الجزاء نزول المؤمنين في جنة الوصال ومقر الآمال . { قُلْ } يا أكمل الرسل للمشركين المتخذين أرباباً من دون الله من مصنوعاته ، يعبدونهم مثل عبادته ، وينكرون توحيده ، ويكذبون كتبه ورسله المبينة لأحوال النشأتين { هَلْ نُنَبِّئُكُم } أي : نخبركم ونرشدكم أيها المنهمكون في الخسران والطغيان { بِٱلأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً } [ الكهف : 103 ] أي : العاملين الذين خسروا من جهة أعمالهم مع أنهم زعموا الربح فيها . وهم : { ٱلَّذِينَ ضَلَّ } أي : بطل وضاع { سَعْيُهُمْ } الذين سعوا { فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } بإتيان الأعمال الصالحة والإنفاق ، وبناء بقاع الخير وغير ذلك ، كالرهابنة والقسيسين ، وكذا عموم أهل العجب والرياء من أي : أمةٍ كانت { وَهُمْ } في النشأة الأولى { يَحْسَبُونَ } ويظنون { أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 104 ] ينفعهم عند الله ، ويتوقعون المثوبة العظمى والدرجة العليا لأجلها ، مع أنهم خاسرون خسراناً مبيناً ؛ لفقدهم ما هو مبني الأعمال ومناط العبادات ، وهو الإيمان بتوحيد الله والتصديقُ بكتبه ورسله . { أُوْلَـٰئِكَ } البعداء الأشقياء المجبولون على الكفر والشقاق هم { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } وكذبوا { بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } الدالة على توحيده وتصديق رسله وكتبه { وَلِقَائِهِ } الموعود لعباده عند إنجلاء جميعهم وارتفاع أستارهم { فَحَبِطَتْ } أي : ضاعت واضمحلت وضلت في النشأة الأخرى { أَعْمَالُهُمْ } التي جاءوا بها في النشأة الأولى ، ولطلب النفع والربح { فَلاَ نُقِيمُ } ونضيع { لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } المعدة لجزاء الأعمال وتنقيدها { وَزْناً } [ الكهف : 105 ] مقداراً يُنتفع ويُعتد بها ؛ لانحباطها وسقوطها عن درجة الاعتبار لدى الملك الجبار . بل : { ذَلِكَ } العلم المترتب على الكفر والشرك { جَزَآؤُهُمْ } ونفعهم العائد لهم لأجل أعمالهم في يوم الجزاء { جَهَنَّمُ } البعد والحرمان ، وسعيرُ الطرد والخسران { بِمَا كَفَرُواْ وَٱتَّخَذُوۤاْ } أي : بكفرهم واتخاذهم { آيَاتِي وَرُسُلِي } المؤيدين بآياتي ، المبعوثين على تبيين دلائل توحيدي بين عبادي { هُزُواً } [ الكهف : 106 ] محل استهزاء يستهزئون وينكرون عليها عتواً وعناداً . ثم قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } وأيقنوا بتوحيد الذات والصفات والأفعال { وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } المقربة إلى التوحيد الذاتي ، الملائمة المناسبة لشعائره ومناسكه { كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ ٱلْفِرْدَوْسِ } وهو وسط الجنة المشرف على أطرافها المرتفع منها . لذلك قال صلى الله عليه وسلم : " إِذا سَألتُمُ الله فَأسألُوا الفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ وَسَطُ الجَنَّةِ " . وهو بستان الغيب ومهبط الفتوحات الغيبية ، وأيضاً هو أعلى مراتب التوحيد ، وعند ذلك انتهى السير والسلوك ، وبعد ذلك السلوك فيه لا إليه وبه { نُزُلاً } [ الكهف : 107 ] أي : منزلاً ينزلون إليه ويتمكنون . { خَالِدِينَ فِيهَا } ولصفائها ونضارتها ، ودوام لَذَّاتها الروحانية وفيوضاها { لاَ يَبْغُونَ } ولا يطلبون بالطبع والإرادة { عَنْهَا حِوَلاً } [ الكهف : 108 ] أي : انتقالاً وتحويلاً ؛ لكونه مقر فطرتهم الأصلية ومنزل استعداداتهم الحقيقية ؛ إذ فوقه عرش الرحمن المفيض لجميع القوابل والاستعدادات مقتضياتها . ثم لما طعن اليهود في القرآن ، وأرادوا أن يثبتوا التناقض في بعض آياته مع بعض ؛ حيث قالوا : أنتم تقرأون في كتابكم تارة : { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] وتارة تقرأون : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] وما هو إلا تناقض صريح . أمر سبحانه حبيبه بقوله : { قُل } لهم يا أكمل الرسل كلاماً يُسقط شبهتهم إن أنصفوا ، نحن لا ندعي أن من أوتي الحكمة فقد أوتي بجميع معلومات الله وعلومه ، وكيف ندَّعي هذا وهو ممتنع محالُ في غاية الامتناع والاستحالة ؛ إذ { لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ } أي : جنس البحر ، وهو جميع كرة الأرض { مِدَاداً } أي : ماء يُمدُّ به القلم للرقم والكتابة { لِّكَلِمَاتِ رَبِّي } أي : لثبتها وكتبها { لَنَفِدَ ٱلْبَحْرُ } وانتهى ألبتة ؛ لتناهيه وكونه محدداً { قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } لكونها غير متناهية { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ } غير محدودةٍ بحدٍ معين ، وكيف لا تنفذ وتتناهى { وَ } أي : بمثل جنس البحر بل بأضعاف أمثاله وآلافها { مَدَداً } [ الكهف : 109 ] إذ لا مناسبة بين المتناهي وغير المتناهي ، وإن فرض أضعافا وآلافاً . { قُلْ } يا أكمل الرسل بعدما بلغت لهم كلمات الله الغير المحصورة كلاماً خيالياً عن وصمة التفوق ، والتفضل المفضي للرعونة ناشئاً عن محض الحكمة والفطنة : { إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } قابل للعلوم الإدراكات على مقتضى البشرية ، لا فرق بيني وبينكم بحسب الفطرة ، غاية في الأمر أنه { يُوحَىٰ إِلَيَّ } ويُفاض إفاضة علمٍ و عين حقٍ { أَنَّمَآ إِلَـٰهُكُمْ } ومعبودكم ومُظهركم { إِلَـٰهٌ وَاحِدٌ } أحدٌ صمد فرد وتر ، ليس له شريكُ ولا نظيرُ ولا وزيرُ ، بل هو مستقلُ في الوجود والإيجاد والإظهار ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد استقلالاً إرادةً واختياراً ، وإنما امتيازي عنكم بهذا . { فَمَن كَانَ } منكم { يَرْجُواْ } رجاءَ مؤملٍ بصيرٍ { لِقَآءَ رَبِّهِ } مكاشفةً ومشاهدةً { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً } قالعاً لأصل أنانيته وهويته ، قامعاً لمقتضيات أوصاف بشريته وبهيميته ، مزيلاً لذمائم أخلاقه وأطواره { وَ } مع ذلك { لاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [ الكهف : 110 ] من خلقه ، أي : لا يقصد من عمله وعبادته الرياءَ والسمعةَ والعُجبَ والنخوة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " " أَخوْفَُ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمْ الشِّركُ الأَصْغَرُ " . قالوا : وما الشرك الأصغر ؟ . قال : " الرِّيَاءُ " . وقال تبارك وتعالى : " أنا أغْنى الشُّركاء عن الشِّركِ ، فَمَنْ عَمِل عَمَلاً أَشْرَكَ فِيْهِ غَيْرِيْ فَأنَا مِنْهُ بَرِيءٌ وَهُوَ الَّذِيْ عَمِلَهُ لأَجْلِهِ " . وبالجملة : يعمل على وجهٍ يسقط الكثرة والاثنينية لا على وجهٍ يؤيدها ويكثرها ، بل العامل العارف لا يطلب لعلمه الجزاء أيضاً ، بل إنما يعلم امتثالاً لأمره سبحانه وطلباً لمرضاته ، ولا يخطر بباله شيء وساه . جعلنا الله ممن تحقق بمقام التوحيد ، وأمَّنه عن توهم الرياء والتقليد ، وحفظه من كل شيطان مريد . خاتمسة السورة عليك أيها الموحد القاصد للتحقق في مقام التمكن من التوحيد . قرَّرَك الله في مقعد صدقك ويقينك ، وثبتك في مقر تثبيتك وتمكينك . أن تحفظ أعمالك التي جئت بها متفرقاً الوصولَ إلى محل القبول عن مداخل الرياء والسمعة والعجب وأنواع الرعونات ؛ إذ هي كلها شباكُ الشيطان وعقاله ، يقيد بها خواص عباد الله ، ويلهيهم بها عما هم عليه من الرضا والتسليم ، ويوقعهم في قتنةٍ عظيمةٍ ومعصيةٍ كبيرةٍ مستلزمةٍ للشرك بالله ، العياذ به من غوائل الشيطان وتسويلاته ويخلصها لمحض وجهه الكريم . فعليك أن تلازم العزلة ، وتداوم الخلوة حتى لا يلحقكمن الخلطة أمثال هذه الأمراض العضال ، وأيضاً لك أن تجلي خاطرك وتصفي ضميرك عن هواجسك المتعلقة بأمور معاشك بين بني نوعك ، فإن أكثر عروض هذه الأمراض إما يحصل من الأماني واللذات الوهمية من الجاه والثروة والتفوق على الأقران وغير ذلك . وإن شئت أن يسهل عليك الأمر فاشغل جوارحك لكسب ضرورات معاشك في بعض الأحيا ، واقنع بأقل المعيشة وسدّ الرمق ، واحذر عن فضول العيش ، فإن أكثر فحول الرجال قد استرق بفضول الأماني والآمال . وبالجملة : نعم القرين العزلة ، والفرار عن تغريرات الدنيا الغدارة المكارة ، والخمول في زوايا الكهوف والأغوار عن اختلاط أصحاب الخسار والبوار . وِفقنا بفضلك وجودكَ بما تحب منا وترضى .