Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 1-11)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ كۤهيعۤصۤ } [ مريم : 1 ] يا كافي مهام جميع الأنام ، وهاديهم إلى دار السلام بيد القدرة العلية الصادرة عنك نيابةً عنا . هذه السورة : { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ } الذي ربَّاك كافياً هداياً للمضلين ينبوعاً للعلوم الصافية اللدنية الجارية من قبلك على لسانك بمقتضى الوحي الإلهي والإلهامات الغيبية { عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } [ مريم : 2 ] المتوجه نحوه في السراء والضراء ، المسترجع إليه عند هجوم البلاء وحلول العناء . اذكر وقت { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ } نداء مؤملٍ ضريع ، وناجى معه مناجاة ما يؤنس فجيعٍ { نِدَآءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] متمنياً متحسراً ، آمراً في ندائه ليأسه وقنوطه ؛ لانقضاء وقت الولد وأوانه ؛ لئلا يُلام عند الناس لطلب الولد وقت الهرم من كلا الجنابين . حيث { قَالَ } مشتكياً إلى الله باثاً شكواه عنده سبحانه : { رَبِّ } يا من ربَّاني بأنواع اللطف والكرم { إِنَّي } من غاية ضعفي ، ونهاية هزالي ونحولي { وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } أي : ضعفت دعائم جسمي وقوائم بدني ، وأشرفت على الانهدام والانصرام { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } أي : اشتعل شبيب رأسي ، وذهب سواده ، وانقلب إلى البياض المشعر بالانقضاء والزوال ، مثل ابيضاض النباتات وقت الخريف { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ } أي : لم أكن في كل حالٍ بدعائي إياك { رَبِّ شَقِيّاً } [ مريم : 4 ] خائباً خاسراً مردوداً ، بل عودتني بفضلك وجودك بالإجابة والإنجاح ، وهذا الدعاء وإن كان أبعدَ بحسب العادة من الإجابة إلاَّ أنه بالنسبة إلى قدرتك وجودك أقرب ، ويجنب حولك وقوتك أسهلُ وأيسرُ ، سيما ألهمتني به ووفقتني على إظهاره . { وَإِنِّي } يا ربّ { خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ } أي : ن أبناء أعمامي الذين يترصدون الولاية والحبورة { مِن وَرَآءِى } وبعد انقراضي وانقضائي أن يغيروها ويضيعوها ، ويحرفوا مَعَالم الدين وشعائر الإسلام بين المسلمين ؛ إذ لا يرجى منهم الرشد والصلاح ، والخير والفلاح ، وأنت أعلم بحالهم مني يا رب ، وليس لي ولد صالح يخلفني بعدي ، ولم يبقَ لي قوة الاستيلاد لهرمي وضعفي { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً } عقيماً أصلياً لم تلد قط ، فلا مرجع لي في أمري سوى بدائع صنعتك ، وغرائب قدرتك { فَهَبْ لِي } بمقتضى فضلك وجودك { مِن لَّدُنْكَ } لا على طريق العادة ومقتضى الأسباب الصوري ولداً { وَلِيّاً } [ مريم : 5 ] يولي أمر دين بني أمتي . بحيث : { يَرِثُنِي } عني نبوتي وحبورتي وولايتي ، وجيمع ما أنزلت عليّ خاصةً من مقتضيات إحسانك إليّ وإنعامك عليَّ { وَيَرِثُ } أيضاً { مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ما بقي منهم من شعائر الدين ومعالم الهدى واليقين ، قيل : كان زكريا أخا يعقوب بن إسحاق ، { وَ } بالجملة : { ٱجْعَلْهُ رَبِّ } بمقتضى كرمك وجودك { رَضِيّاً } [ مريم : 6 ] راضياً عنك بجميع ما جرى عليه من قضائك ، صابراً على نزول عموم بلائك ، شاكراً على نعمائك مرضياً عندك وعند عموم عبادك . ثم لما اشتكى عنده سبحانه بما اشتكى ، ودعا ما دعا أجاب سبحانه دعاءه ، وأسرع إجابته منادياً له على سبيل الترحم والتفضل : { يٰزَكَرِيَّآ } المتضرع المناجي إلينا ، المستدعي منا خلفاً يخلفك ويحيي اسمك { إِنَّا } من مقام عظيم جودنا { نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } يولد منك ومن زوجتك العقيمة العاقرة { ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ } ليحيي مراسم دينك وشرعك وحبورتك مع أنه { لَمْ نَجْعَل } ولم نخلق { لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } [ مريم : 7 ] بهذا الاسم . بهل هو أول من سمّي به . سمع زكريا البشارة من قبل الحق ، { قَالَ } على سبيل الفرح وبسط الكلام معه سبحانه ، وإن كان جميع أحواله حاصلاً عنده سبحانه على التفصيل حاصلاً حاضراً لديه مستبعداً مستغرباً : { رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } في سني هذا وضعفي ونحولي { وَ } قد { كَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً } جِبلِّياً { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ } والكهولة والهرم { عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] يبساً ؛ بحيث لا يبقى على رطوبةٍ في مفاصلي وأركان بدني وقوائم جسمي ؟ ! . { قَالَ } سبحانه : يا زكريا لا تستبعد من قدرتنا أمثال هذا بل { كَذٰلِكَ } أي : مثل ذلك قدّرنا لك أبناً بأن تكون باقياً على كبرك وهرمك ، وزوجتك أيضاً على هرمها وعقرها ، نخرج ونوجد منكما الولد إظهاراً لقدرتنا الكاملة وأمثال هذا وإن كان عسر عادةً ، علينا يسيرُ وفي جانب قدرتنا سهلُ يا زكريا . كذلك { قَالَ رَبُّكَ } اسمع قوله : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي : إخراج الولد منك ومن زوجتك عليّ سهلُ يسيرُ وفي جنب حولي وقوتي حقيرُ { وَ } كيف لا يكون سهلاً إني { قَدْ خَلَقْتُكَ } وقدَّرت وجودك فيما مضى من العدم { مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] ولا مسبوقاً بشيءٍ ، بل أوجدتك إيجاداً إبداعياً ، وأظهرتك من كتم العدم إظهاراً إختراعياً بلا سبق مادةٍ ومدةٍ وسببٍ وعادةٍ ، وهذا هينُ بالنسبة إلى ذاك . ثم لما تفطن زكريا بإنجاح مطلوبه ، أخذ يطلب العلامة والأمارة لحمل امرأته ؛ حيث : { قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِيۤ } بفضلك { آيَةً } علامةً دالةً على حمل امرأتي { قَالَ } سبحانه { آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ } أي : لا تقدر على المقاولة والمكالمة { ثَلاَثَ لَيَالٍ } مع نهارها لا عن عروضٍ عارضةٍ ولحوق مرضٍ وخرسٍ بل كنت { سَوِيّاً } [ مريم : 10 ] صحيحاً سالماً عن جميع الأسقام ، غير أن اشتغالك بالحق شعلك عن الخلق ؛ بحيث لا تطيق التكلم معهم في المدة المذكورة إلا رمزاً وإشارة إيماء . ثم لما دنا وقت الحمل ولاحت أماراته { فَخَرَجَ } صبيحة { عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ } أي : الحجرة التي هو فيها في خلوته للصلاة على عادته المستمرة ، وكان من عادته أن يأمرهم في كل صبيحة خرج عليهم بالصلاة والدعاء والخشوع والتوجه { فَأَوْحَىٰ } أي : أومأ وأشار { إِلَيْهِمْ } بلا قدرةٍ على النطق والتكلم { أَن سَبِّحُواْ } ربكم ونزهوه عما لا يليق بجنابه { بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] أي : في الصبيحة التي أنتم فيها والبكرة التي ستجيء إلى العشية الآتية وإلى الصبحة بعده ، أوصاهم كل يوم بذلك على الدوام ، وفي تلك المدة ما قدر على التكلم لذلك أشار وأومأ .