Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 12-25)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم لما أومأ سوينا خلقة يحيى ، وأخرجناه من بطن أمه صحيحاً سوياً ، قلنا له تربية وتكريما : { يٰيَحْيَىٰ } الموهوب من لدنا المؤيد من عندنا { خُذِ ٱلْكِتَابَ } أي : التوراة واشرع في ضبطها وحفظها { بِقُوَّةٍ } أي : بِنِيّةٍ خالصةٍ وعزيمةٍ صحيحةٍ { وَ } إنما أمرناه بحفظها وضبطها ؛ إذ { آتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ } يعني : الحكمة المندرجة فيها ، وأعطينا فهمها واستنباط الأحكام منها حال كونه { صَبِيّاً } [ مريم : 12 ] لم يبلغ الحلم . { وَ } إنما آتيناه وأعطيناه في حال صغره فهم التوراة { حَنَاناً } ترحماً وتعطفاً ناشئاً { مِّن لَّدُنَّا } تكريماً له ولأبيه { وَ } لهذا أيضاً أعطيناه { زَكَاةً } طهارةً عن الخبائث والآثام كلها { وَ } لذلك { كَانَ } مدة حياته من أوان صباه إلى موته { تَقِيّاً } [ مريم : 13 ] حَذِراً عن المناهي والمنكرات ، خائفاً عن المعاصي والمحظورات . { وَ } لنجابة طينته ألقينا في قلبه { بَرّاً } وإحساناً { بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن } في جميع أوقاته وحالاته { جَبَّاراً } عاقاً لهما مستكبراً عن أمرهما { عَصِيّاً } [ مريم : 14 ] تاركاً حكمهما وأمرهما . { وَ } لسلامته عن جميع الآثام وطهارته عن جميع الخبائث والمعاصي { سَلاَمٌ عَلَيْهِ } أي : تحيةُ وتكريمُ وحفظُ وتسليمُ نازلُ عليه على الدوام { يَوْمَ وُلِدَ } نحفظه من الشيطان { وَيَوْمَ يَمُوتُ } نحفظه من زوال الإيمان { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } [ مريم : 15 ] نصونه عن الخيبة والخسران ولحوق الحسرة والخذلان . { وَٱذْكُرْ } يا أكمل الرسل { فِي ٱلْكِتَابِ } أي : القرآن المنزل إليك سيد النساء { مَرْيَمَ } أي : قصتها ، وحالتها العجيبة الشأن التي هي أغرب وأعجب من قصة زكريا ، واذكر وقت { إِذِ ٱنتَبَذَتْ } أي : اعتزلت وتباعدت { مِنْ أَهْلِهَا } حين حاضت وطهرت وأرادت الاغتسال على مقتضى طهارتها الفطرية ونجابتها الجبلية ، فاختارت للخلوة والتستر { مَكَاناً شَرْقِياً } [ مريم : 16 ] أي : في مشرق بيت المقدس ، ومع كونه مكاناً بعيداً خالياً عن الناس . { فَٱتَّخَذَتْ } وسدلت لكمال الاحتياط والانحفاظ { مِن دُونِهِم حِجَاباً } يسترها ، ويحفظها عن أعين الناس إن وصلوا بغتة ، لم لم تجردت عن لباسها واشتغلت ؛ لأن تغتسل { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } أي : حامل روحنا وهو جبرائيل عليه السلام إظهاراً لقدرتنا وحكمتنا ، وإنفاذاً لحُكمنا الذي حكمنا به في سابق علمنا { فَتَمَثَّلَ لَهَا } جبرائيل عليه السلام { بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] صحيحاً صبيحاً أمردَ قططاً مجعدَ الشعر لئلا تستوحض ، ومع ذلك استوحشت وارتهبت رهبةً شديدةً ، ومن غاية خوفها منه واضطرابها { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ } وألوذ { بِٱلرَّحْمَـٰنِ } الذي كفى لحفظ عباده عن مطلق الشذوذ سيما { مِنكَ } أي : من شرِّك ومن شرِّ أمثالك فامتنع أنت بنفسك عني { إِن كُنتَ تَقِيّاً } [ مريم : 18 ] خائفاً عن الله ، حذراً عن بطشه وانتقامه . ثم لما رأى جبريل عليه لسلام من كمال عفتها وعصمتها ما رأى : { قَالَ } مستحيياً معتذارً : { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } أرسلني إليك { لأَهَبَ لَكِ } بإذن الله إياي وأمره { غُلاَماً زَكِيّاً } [ مريم : 19 ] طاهراً عن جميع الرذائل والآثام ، مترقياً في فنوف الفضائل والكمالات إلى أقصى النهايات ، مظهِراً لأنواع المعجزات والكمالات والكرامات ، وأصناف الإرهاصات الخارقة للعادات . ثم لما سمعت عليها لسلام مقالته ، وتفطنت بنور الولاية أنه من قبل الله { قَالَتْ } مستعجبةً مشتكيةً مستحيةً : { أَنَّىٰ } أي : من أين { لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } لم يجرِ عليّ أسبابه ؛ إذ { يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَ } بالنكاح مساسَ مواقعةٍ موجبةً للجمل والحبل { وَلَمْ أَكُ } في مدة حياتي عاصيةً لله فاسقةً خارجةً عن مقتضى حدوده لأكون { بَغِيّاً } [ مريم : 20 ] فاحشةً زانيةً يلد مني ولد الزنا . { قَالَ } جبرائيل عليه السلام : { كَذٰلِكَ } جرى حكم ربك ، وأمضى عليه في سابق قضائه لا تستبعدي ولا تستعسري ؛ إذ { قَالَ رَبُّكِ } الذي ربَّاك على العصمة والعفاف { هُوَ } أي : هبة الولد لك بلا مساس البشر ، وسبق الأسباب العادية { عَلَيَّ هَيِّنٌ } سهلُ يسيرُ ؛ إذ لا يعسر علينا شيء ، ولا يعجز عن قدرتنا مقدورُ ، بل إذا أردناه نقول له : كن فيكون بلا سبق سببٍ وعلةٍ ، { وَ } إنما نظهره ونوجده { لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } دالةً على كمال قدرتنا وبدائع صنعنا وحكمتنا { وَرَحْمَةً } نازلةً { مِّنَّا } على عبادتنا سيما عليك يا مريم { وَكَانَ } خلق عيسى ظهورهُ بلا أب في العالم ، وعروجه إلى السماء { أَمْراً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 21 ] كائناً مثبتاً في لوح قضائنا وحضرة علمنا . ثم لما سمعت ما سمعت نفخ جبرائيل عليه السلام في درعها ، فوصل أثرها إلى جوفها فحبلت : { فَحَمَلَتْهُ } أي : صارت حاملةً بعيسى فجأةً وكبر في بطنها في الساعة ، وبعدما ظهر عليها من أمارات الطَّلق ما ظهر { فَٱنْتَبَذَتْ } واعتزلت وتباعدت منفردةً { بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً } [ مريم : 22 ] بعيداً عن العمران استحياءً من أهلها ، ومن لوم الناس إياها وتعييرهم عليها بولادتها بلا زوج . { فَأَجَآءَهَا ٱلْمَخَاضُ } وظهر أمارة الولادة ، فألجأها التشبث { إِلَىٰ جِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } اليابسة ؛ لتعتمد عليها عند الولادة ، وتُستر بها عن الناس { قَالَتْ } حينئذ من شدة حزنها وكآبتها ، ووفور ضجرتها من ألم الملامة والفضاحة متيمنةً موتها : { يٰلَيْتَنِي مِتُّ } وعُدمت { قَبْلَ هَـٰذَا } اللوم والفضيحة { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } [ مريم : 23 ] متروكاً معدوماً لا التفات لأحدٍ إليّ أصلاً . ثم لما وضعت حملها واشتد الألم عليها { فَنَادَاهَا } أي : نادى الوليدُ أمه { مِن تَحْتِهَآ } بإلهام الله إياه وتنشيطاً : { أَلاَّ تَحْزَنِي } يا أمي ، ولا يشتد عليك الأ / ر بواسطة ولادتي وظهوري بلا أبٍ ، واعلمي { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ } ولداً { سَرِيّاً } [ مريم : 24 ] سيداً مطيعاً نقياً سجياً سخياً ذا إرهاصاتٍ وكراماتٍ ، من جملتها : إنه ظهر لك من تحت رجلك نهراً جارياً لدفع عطشك وتطهير الفضلات عن بدنك وثيابك . { وَ } لدفع جوعك { هُزِّىۤ إِلَيْكِ } أي : حرِّكي إلى نفسك حين أخذت { بِجِذْعِ ٱلنَّخْلَةِ } التي في جنبك { تُسَاقِطْ } أي : تتساقط منها ثمارها { عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً } [ مريم : 25 ] بالغاً في النضج غايته ، وحان وقت اجتنابه . قيل : كانت النخلة يابسة لا رأس لها ، والوقت وقت الشتاء ، فتغصنت في تلك الحالة ، وأثمرت ونضجت ثمارها كرامةً لعيسى وإرهاصاً لأمه صلوات الرحمن عليهما .