Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 89-98)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والله أيها المفترون على الله { لَّقَدْ جِئْتُمْ } بإثبات الولد له سبحانه { شَيْئاً إِدّاً } [ مريم : 89 ] منكراً عظيماً ، ومفترىً شنيعاً فظيعاً ، إلى حيث { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ } ويتشققن مع متانة قوائمها وشدة التئامها { مِنْهُ } أي : من سماع قولكم هذا ونسبتكم هذه ، هولاً ورهبة من صولة قهر الله وسطوة غضبه ونزول عذابه { وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَ } كذا { تَخِرُّ } و تسقط { ٱلْجِبَالُ } خرور خشيةٍ وهولٍ { هَدّاً } [ مريم : 90 ] أي : سقوطاً وأصلاً إلى التفتت والتشتت والاندكاك بالمرة ، بحيث اضمحلت رسومها مطلقاً . كل ذلك من خوف سطوة صفاته الجلالية ، ومقتضيات أسمائه القهرية ، المنبعثة من الغيرة الإلهية ، الناشئة منه سبحانه بواسطة { أَن دَعَوْا } وأثبتوا { لِلرَّحْمَـٰنِ } المقدس المبرئ في ذاته عن لوازم الحدوث والإمكان { وَلَداً } [ مريم : 91 ] . { وَمَا يَنبَغِي } ويليق { لِلرَّحْمَـٰنِ } المتجلي في كلّ آن وشأن ، ولا يشغله شأن عن شأن { أَن يَتَّخِذَ } زوجةً ويتسبب بها ليظهر { وَلَداً } [ مريم : 92 ] يستخلفه ويستظهر به ويستعين منه ، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً . بل { إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } من الملائكة المهيمين المستغرقين بمطالعة جمال الله ، المستوحشين من سطوة جلاله { وَٱلأَرْضِ } أي : مَن في عالم الطبيعة المتوجهة نحو مبدعها طوعاً { إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ } المهّدِ الممد لهم أضلال أسمائه الحسنى وأوصافه العظمى ، والمفيضِ عليهم من رشحات بحر وجوده ، بمقتضى فضله وجوده { عَبْداً } [ مريم : 93 ] متذللاً مقهوراً تحت تصرفه ، مصروفاً حسب قدرته وإرادته ، محاطاً تحت حيطة حضرة علمه ولوح قضائه . إلى حيث { لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ } وفصلهم ، لا يشذ شيءُ من أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم ، وجميع حالاتهم حتى اللمحة اللحظة الطرفة والخطرة من حيطة حضرة علمه وقبضة قدرته واختياره { وَعَدَّهُمْ عَدّاً } [ مريم : 94 ] أي : فرداً فرداً ، وشخصاً شخصاً ، مع جميع العوارض من المتعلقة بكل فردٍ وشخصٍ ، ما داموا في هذه النشأة ، { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ } أيضاً { يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فَرْداً } [ مريم : 95 ] منفرداً مفروزاً عن الأنصار والأعوان وجمي الأصحاب والخلان . ثم قال سبحانه : { إِنَّ } المنتخبين المنتجبين { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بالله وتوحيده ، وأطاعوا لرسله والمؤيَّدين من عنده وامتثلوا بجميع ما جاءوا به من الأوامر والنواهي المبيَّنة في الكتب الإلهية المنزَّلة عليهم { وَ } مع ذلك { عَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } من النوافل المقربة إلى الله طلباً لرضاه وابتغاءً لوجهه { سَيَجْعَلُ } ويحدِث { لَهُمُ ٱلرَّحْمَـٰنُ } المتكفل لجزائهم وإثابتهم بمقتضى سعة رحمته وجوده ووفور لطفه { وُدّاً } [ مريم : 96 ] ومحبةً في قلوب جميع المؤمنين حتى يحبوهم ، ويتحننوا نحوهم ، بلا سبق الوسائل والأسباب العادية الموجبة لمودة البعض للبعض من الإنعام والإحسان وأنواع العطية والإكرام ، مع محبة عموهم عباد الله للبدلاء المنسلخين عن مقتضيات لوازم البشرية . ثم قال سبحانه امتناناً على حبيبه ، وإشارةً إلى عظم رتبة القرآن الجامع لجميع المعارف والأحكام ، بعدما بيَّن في هذه السورة من معظمات مهما الدين من العبر والتذكيرات والأخلاق والآداب : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ } أي : القرآن { بِلِسَانِكَ } وسهلناه وأنزلناه على لغتك { لِتُبَشِّرَ بِهِ ٱلْمُتَّقِينَ } الذين يحفظون نفوسهم عن مخالفة ما أُمروا به ونُهوا عنه ببشارةٍ عظيمةٍ عنايةً من الله إياهم وفضلاً ، وهي تحققهم بمقامم الرضا والفوز بشرف اللقاء { وَتُنْذِرَ بِهِ } أي : بوعيداته وأنواع العذاب المذكورة فيه { قَوْماً لُّدّاً } [ مريم : 97 ] لدوداً لجوجاً ، مفرطين في اللدد والعناد ، مصرين على ما هم عليه من الفسق والفساد . { وَ } لا تبالِ يا أكمل الرسل بتماديهم في لددهم وعنادهم ، ولا تحزن من عتوهم وفسادهم ؛ إذ { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } أي : أهلكنا كثيراً من أقوامٍ مضوا ، كانوا متمادين أمثلهم في الغي والضلال ، مصرين على المراء والجدال . تأمل والتفت يا أكمل الرسل وتشعر { هَلْ تُحِسُّ } أي : وتشعر { مِنْهُمْ } من المهلكين { مِّنْ أَحَدٍ } نجا ، وبقي سالماً من قبضة وسطوة قهرنا وغضبنا { أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } [ مريم : 98 ] صوتاً خفياً يُسمع من قبورهم ومدافنهم ، بل صاروا كأن لم يكونوا أصلاً ، وما ذلك وأمثاله علينا بعزيز . رب اختم عواقب أمورنا بالخير والحسنى . خاتمة السورة عليك أيها السالك المتدبر المتأمل في الأسماء الحسنى الإلهية ، والمستكشفُ عن رموز صفاته الثبوتية والسببية والجمالية والجلالية ، واللطفية والقهرية ، وجميع الأوصاف المتقابلة والمتماثلة الإلهية ، أن تتعمق وتتأمل في معنى اسم الرحمن الذي كرره سبحانه في هذه السورة مراراً كثيرةً ، وتدبَّر فيه كي تصل وتستكشف إلى أن مبدأ جميع ما ظهر وبطن ، وكان ويكون ، وإنما هو هذا الاسم المشير إلى سعة رحمة الحق ، ووفور جوده وفضله على مظاهره ومصنوعاته ؛ إذ به استوى سبحانه على عروش جميع الكوائن والفواسد ، وبه ظهر ما ظهر من كتم العدم . وبالجملة : ما من موجودٍ محققٍ محسوسٍ أو مقدرٍ مخطورٍ ، إلا وهو في حيطة هذا الاسم وتحت تربيته وتصرفه ، بحيث لو انقطع إمداده عن العالم طرفةً لم يبقَ للعالم ظهور ووجود أصلاً . ومتى تحققتَ بهذا الاسم العظيم ، ويقنت شموله وإحاطته لجميع المظاهر شمول عطفٍ ولطفٍ ، فزتَ بحقيقة قوله سبحانه : { إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ إِلاَّ آتِي ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً } [ مريم : 93 ] . جعلنا ممن تحقق بمعاني أسمائه الحسنى ، واستكشف عن سرائر صفاته الأسنى ، بفضله وطَوله ، وسعة رحمته وجوده .