Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 77-88)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم قال سبحانه على سبيل التوبيخ والتقريع للكافر المستكبر : { أَفَرَأَيْتَ } أيها الرائي الباغي { ٱلَّذِي كَفَرَ } أنكر وأغرض واستكبر { بِآيَاتِنَا } الدالة على عظمة ذاتنا وكما أوصافنا وأسمائنا { وَقَالَ } مقسماً مبالغاً على سبيل الاستهزاء والسخرية : والله { لأُوتَيَنَّ } وأعطين في النشأة الأخرى أيضاً إن فُرضَ وجودُها { مَالاً وَوَلَداً } [ مريم : 77 ] مثلما أُعطيت في هذه النشأة ، هذا من غاية اغتراره ونهاية ذهوله وغفلته واعقاده كبراً وخيلاْ أنه حقيقٌ بهذه المرتبة حيثما كان . فردَّ الله سبحانه عليه على أبلغ الوجوه وآكده بقوله : { أَطَّلَعَ ٱلْغَيْبَ } أي : أبدعي هذا الطاغي التائه في تيه الغفلة والجهل علم الغيب واطلاع السرائر { أَمِ ٱتَّخَذَ } واخذ { عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } أي : من عنده على لسان نبي من أنبيائه أو مَلَكٍ من ملائكته { عَهْداً } [ مريم : 78 ] ليعطيه في الآخرة مالاً وولداً ؟ ! إذ لا معنى للجزم بهذه الدعوى وتأكدها بالحلف إلا بأحدِ هذين الطرفين . { كَلاَّ } وحاشا يس لهذا الجاهل الكذاب ولا ذاك ولا هذا ، بل { سَنَكْتُبُ } ونأمر الحفظةَ أن يكتبوا { مَا يَقُولُ } هذا المسرف المغرور اغتراراً وجاهه { وَنَمُدُّ لَهُ } ونزيد عليه يوم الجزاء { مِنَ ٱلْعَذَابِ مَدّاً } [ مريم : 79 ] أي : عذاباً فوق العذاب أضعافاً وآلافاً بكفره وإصراره واغتراره على كفره وعتوه على أهل الإيمان واستهزائه إياهم . { وَ } بعدما نهلكه ونميته { نَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي : نرث ما يقول ويفتخر به من الأموال والأولاد وغيرها ، ونخلعها عه ونجرده ؛ بحيث لا يبقى معه شيء منه { وَيَأْتِينَا } يوم العرض والجزاء { فَرْداً } [ مريم : 80 ] صفراً خالياً بلا أهلس ولا مالٍ ولا إيمانٍ ولا عملٍ . { وَ } من غاية جهلهم بالله ونهاية غفلتهم من حقِّ قدْره وقدْر توحيده واستقلاله واستيلائه { ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً } من تلقاء أنفسهم وعلى مقتضى أهويتهم الفاسدة { لِّيَكُونُواْ } أي : آلهتهم { لَهُمْ عِزّاً } [ مريم : 81 ] أي : بسبب عزهم وتوقيرهم عند الله يشفعون لهم ويخفون عذابهم . { كَلاَّ } ردعُ لهم عما اعتقدوا من الفوائد العائدة لهم من عبادة الأوثان والأصنام من الوصلة والشفاعة والتسبب للنجاة ، بل { سَيَكْفُرُونَ } وينكرون أولئك المعبودون يومئذ { بِعِبَادَتِهِمْ } أي : بعبادة الكفرة إياهم { وَ } كيف يشفعون لهم حينئذٍ ، بل { يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] يضادون عليهم ، ويعادون بل يريدون مقتهم وازياد عذابهم . ثم لما تعجب صلى الله عليه وسلم من قسوة قلوب الكفرة ، وشدة عمههم وسكرتهم في الغفلة ، وعدم تفطنهم وتنبههم بحقية آيات التوحيد مع وضوحها وسطوعها ، مع أنهم من زمرة العقلاء المجبولين على فطرة المعرفة والإيقان ، سيما بعد ظهور الحق وعلو شأنه ، وارتفاع قدره برسالته صلى الله عليه سلم ، ونزول القرآن له ، واختتام أمر البعثة والتشريع به صلى الله عليه وسلم ، وهم بعد منكرون . أشار سبحانه إلى سبب غيِّهم وضلالهم وتماديهم فيها على وجهٍ يزيح تعجبه صلى الله عليه وسلم فقال مخاطباً له : { أَلَمْ تَرَ } يا أكمل الرسل ولم تتفطن { أَنَّآ } بمقتضى اسمنا المذل { أَرْسَلْنَا ٱلشَّيَاطِينَ } المضلين { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } الذين أردنا إضلالهم وإذلالهم في سابق علمنا ولوح قضائنا وسلطانهم عليهم ؛ بحيث { تَؤُزُّهُمْ } أي : تهزهم وتحركهم وتغريهم بتسويلاتهم نحو المعاصي والآثام ، وتوقعهم بأنواع الفتن والإجراء ، وتحبب عليهم الشهوات واللذات النفسانية المستلزمة المستجبلة لأنواع العقوبات ، المبعدة عن المثوبات والفوز بالمرادات { أَزّاً } [ مريم : 83 ] هزاً دائماً ؛ بحث صارت قلوبهم المعدة بالفطرة الأصلية للمعرفة والتوحيد مطبوعةً مختومةً بغشاوةٍ عظيمةٍ وغطاءٍ كثيفٍ ، لا يُرجى انجلاؤها أصلاً . لذلك لم يتفطنوا بظهور الحق ولوائح آياته ولوامع علاماته ، مع كمال وضوحها وانجلائها وتشعشعها . { فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ } يا أكمل الرسل بعدما علمتَ حالهم بإهلاكنا إياهم وانتقامنا عنهم ، ولا تيأس من إمهالنا وتأخيرنا إهلاكهم أن نهمل عن أخذهم وانتقامهم ، بل { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ } بإمهالنا إياهم أياهم آجالهم وأوقاتها { عَدّاً } [ مريم : 84 ] متى وصل وقتها أخذناهم واستأصلناهم ، بحيث أمِنت أنت ومن معك من المؤمنين من شرورهم وفسادهم . اذكر يا أكمل الرسل { يَوْمَ } الحسرة للكافرين ؛ إذ { نَحْشُرُ } ونجع فيه { ٱلْمُتَّقِينَ } أي : المؤمنين الذين يحفظون نفوسهم عن المنهيات والمحظورات الواردة في الكتب الإلهية المنزلة على الرسل المبينين لها { إِلَى ٱلرَّحْمَـٰنِ وَفْداً } [ مريم : 85 ] وافدين فرقةً بعد فرقةٍ ؛ ليجازوا بالرحمة والمغفرة ، ويستغرقوا بها جزاء إيمانهم وتقواهم ، ويتفضلوا بالضوان تفضلاً عليهم وزيادة كرامة لهم . { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ } يومئذ سَوق البهائم المجرمة الجانية إلى السجن والحبس بالقهر والغضب التام { إِلَىٰ جَهَنَّمَ } التي هي أسوأ الأماكن وأظلمها وأعمقها { وِرْداً } [ مريم : 86 ] ورود البهائم إلى المجلس والأغوار بزجرٍ تامٍ من الضرب المؤلم والتصويب وغيرهما . وهم في تلك الحالة حيارى مضطربين ، لا تنفعهم أعمالهم ولا معبوداتهم الباطلة ، ولا يشفعون لهم ولا ينقذونهم من النار كما زعموا . وكيف يشفعون له معبوداتهم ؛ إذ هم { لاَّ يَمْلِكُونَ ٱلشَّفَاعَةَ } لأنفهسم ليخففوا العذاب عنهم متى أرادوا ، بل لا شفاعة لهم { إِلاَّ مَنِ ٱتَّخَذَ } وحصل له { عِندَ ٱلرَّحْمَـٰنِ } أي : من عنده { عَهْداً } [ مريم : 87 ] إذناً بالشفاعة لمن أراد سبحانه إنقاذه بشفاع ذلك الشفيع كشفاعة بعض الأنبياء لعصاة أممهم ، وإن أذن لهم الرحمن المستعان . { وَ } كيف يحصل لهؤلاء الهالكين النجاة من نيران الحرمان ، والخلاص من سعير الخذلان والخسران ، مع جرمهم الذي هو أعظم الجرائم عند الله وأفحشها ؛ حيث { قَالُواْ } مفرطين في حق الله من غاية انهماكهم في الغفلة عنه وعن قدْره ورتبته : { ٱتَّخَذَ ٱلرَّحْمَـٰنُ } المنزَّهُ عن وصمة الكثر وشين النقصان ، المقدش عن سمة الحدوث والإمكان { وَلَداً } [ مريم : 88 ] هو أقوى أمارات الإمكان وعلامات الاستكمال والنقصان .