Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 255-255)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ٱللَّهُ } أي : الذات الثابت الوجود والكائن الحق الحقيقي بالحقيقة والتحقق والثبوت ، إياك أن تقصد بالألفاظ محتملاتها ؛ إذ الغرض من التعبير التنبيه ، وإلا فكيف يعبر عنه وهو أجل من أن يحيط به العقول فيعبر عنه ، أو يورد في قالب الألفاظ الذي { لاَ إِلَـٰهَ } أي : لا موجود ، وإن شئت قل : لا وجود ولا تحقق ولا كون ولا ثبوت { إِلاَّ هُوَ } هذا هو نهاية ما تنطق عنه ألسنة التعبير عن الذات الأحدية ؛ أذ كل من التعبيرات والإدراكات والمكاشفات والمشاهدات ، إنما ينتهي إليه ، وبعد انتهائه إليه تكل وتجهل وتعمى وتدهش ، ما للعباد ورب الأرباب حتى يتكلموا عنه ، سوى أن الحق سبحانه لما ظهر لهم بذاته جميع أوصافه وأسمائه ، أنزل عليهم على قدر عقولهم المودعة فيهم كلاماً جامعاً نبههم على مبدئهم بعد توفيق مه وجذب من جانبه ؛ إذ أسهل الطريق بالنسبة إلى المحجوبين هو الألفاظ المنبهة عن غيب الذات ؛ إذ هو خال عن المواد الغليظة والكدورات الكثيفة المزيحة لصفاء الوحدة ، ومع ذلك أيضاً لا ينجو عن ثوب الكثرة . والحاصل أن من اطلع باطلاع الله وإلهامه على أن فيه مبدأ التكاليف الذي هو العقل المتشعب من العلم الحضوري الحقي ، فلا بد أن يصرفه امتثال ما أمر واجتناب ما نهى ، ليكون في مرتبة العبودية مطمئناً راضياً مستدرجاً من الحياة الصورية إلى الحياة المعنوية التي هي { ٱلْحَيُّ } الأزلي الأبدي السرمدي الدائم { ٱلْقَيُّومُ } الذي { لاَ تَأْخُذُهُ } فتور وفترة وتعديل وغفلة لا { سِنَةٌ } نعاس لا ينتهي إلى حد النوم { وَلاَ نَوْمٌ } يتجاوز عنها قمها ، مع أن المناسب للترقي تأخيرها اهتماماً بشأنها ؛ لكونها أقرب نسبة إلى الله سبحانه تعالى من النوم بالنسبة إلى أولي الأحلام السخيفة من المجسمة وغيرها ، هو الذي { لَّهُ } محافظة { مَا } ظهر { فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي : سموات الأسماء والصفات الذاتية التي هي أول كثرة ظهرت من الغيب إلى الإضافية { وَمَا } ظهر { فِي ٱلأَرْضِ } أي : طبيعة العدم التي هي آخر كثرة عادت من الشهادة الحقيقية إلى الغيب الإضافي الذي هو قلب الإنسان ، وهو البرزخ بين الغيب الحقيقي والشهادة الحقيقية { مَن ذَا } من الأنبياء والأولياء { ٱلَّذِي يَشْفَعُ } يهدي ويرشد للناقصين المنحطين عن مرتبة الإنسانية { عِنْدَهُ } بعد ظهوره له بهو هو { إِلاَّ } من يرشدهم { بِإِذْنِهِ } بوحيه على قلبه ورقائق مناسباته التي لا يمكننا التعبير عنها الذي هو { يَعْلَمُ } بعلمه الحضوري { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } حالة إذ { وَمَا خَلْفَهُمْ } أزلاً وأبداً { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ } قليل { مِّنْ عِلْمِهِ } الحضوري { إِلاَّ بِمَا شَآءَ } وتعلق إرادته ومشيئته عليه . من هذا يتفطن العارف أن العالم ما هو إلا مظاهر ذات الحق وأظلال أسمائه وآثار أوصافه ؛ إذ الموجود هو ، والوجود هو ، والحي هو ، والقيوم هو ، الرقيب المحافظ الملازم على محافظة ما ظهر في الأولى والأخرى هو ، والعالم المدبر بالحضور مصالح جميع ما ظهر وبطن هو ، والعلم والإدراكات الصادرة من المظاهر هو على العلم الحضوري . فلم يبق للعالم إلا مناسبة الظلية والانعكاس والمظهرية ؛ إذ { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } مجلاه ومظاهره { ٱلسَّمَٰوَٰتِ } المذكورة { وَٱلأَرْضَ } المذكورة { وَلاَ يَؤُودُهُ } يثقله { حِفْظُهُمَا } وإن كانت سموات الأسماء وأرض الطبيعة غير متناهية ، بل وإن فرضت بأضعافها وآلافها أموراً متعددة غير متناهية لا يثقله ؛ إذ كل من تحقق بمرتبة قلب الإنسان المنعكس من الذات الأحدي المائل نحوها بالميل الحبي الشوقي المتلذذ دائماً بوجوده وحضوره ، تحقق عنده من الوسعة ما لا يمكن التعبير عنه مطلقاً . كما سمح سلطان العارفين وبرهان الواصلين - عمَّت بركات أنفاسه الشريفة على الفقراء المتوجهين نحو فضاء التوحيد - حيث قال : " لو أن العرش وما حواه مائة ألف ألف مرة في زاوية من زوايات قلب العارف ، ما أحسن " . جاء بعده رأس الموحدين ، ورئيس أرباب التحقيق واليقين ، محيي الملة والدين ، الذي هيَّج بحر التوحيد تهييداً شديداً إلى حيث يترشح من تيار قلبه الزخار رشحات المعارف والحقائق ، على قلوب أولي العزائم الصحيحة المقتفية إثر طريقة - قدس الله روحه وأرواحهم وشكر سعيهم وسعيه - حيث قال : هذا وسع أبي زيد في عالم الأجسام ، بل أقول : " لو أن ما لا يتناهى وجوده قدر انتهاء وجوده مع العين الموجدة له في زاوية من زوايا قلب العارفين ، ما أحسن بذلك في علمه " . انتهى . أقول والحديث القدسي مغنٍ عن أمثالهم إن قوله سبحانه : " وسعني قلب عبدي المؤمن " وسعة عجز عنها التعبير مطلقاً { وَ } بالجملة : ما لكم أيها العباد ومعرفة الذات غير هذا { هُوَ ٱلْعَلِيُّ } بذاته تعالى عن أن تدركه عقول العقلاء وتنزه عن أن تصفه ألسنة الفصحاء { ٱلْعَظِيمُ } [ البقرة : 255 ] بآثار أسمائه وصفاته الممتدة على صفحات الإعدام ، وهو في ذاته على حرافة وحدته ، وهو ولا شيء سواه .