Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 26-28)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم لما طعن الكفار في غاية استكبارهم وعتوهم ونهاية استعظامهم نفوسهم ، واعتقادهم الأصالة في الوجود ، والاستقلال بالآثار المترتبة عليه الصادرة منهم ظاهراً على الكتاب ، والرسول المنزل عليه قائلين بأن ما جئت به وسميته وحياً نازلاً إليك من عند الله الحكيم لا يدل على كلام من يعتد به ويعتمد عليه ، فضلاً عن أن يدل على أنه كلام الحكيم المتصف بجميع أوصاف الكمال المستحق للعبادة ؛ لأن ما مثل به فيه هي الأشياء الخسيسة الخبيثة والضعيفة الحقيرة ، مثل الكلب والحمار والذباب والنمل والنحل والعنكبوت وغيرها ، والكلام المشتمل على أمثال هذه الأمثار لا يصدر من الكبير المتعال ؟ ! رد الله عليهم وروج أمر نبيه - صلوات الله عليه - فقال : { إِنَّ ٱللَّهَ } المستجمع لجميع الأوصاف والأسماء ، المقتضية لظواهر الكائنات ، المرتبة لمراتب الموجودات الظاهر على جميع المظاهر بلا تفاوت ، كظهور الشمس وإشراقها على جميع الآفاق ، وسريان الروح في جميع الأعضاء { لاَ يَسْتَحْى } استحياء من في فعله ضعف وعافية وضيعة ، بل الله سبحانة { أَن يَضْرِبَ مَثَلاً } بمظهر { مَّا } من المظاهر غير المتفاوتة في المظهرية ؛ إذ له بذاته من جميع أوصافه وأسمائه ظهور في كل ذرة من ذرائر العالم بلا إضافة ، فلا تفاوت في المظاهر عنده ، وما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ، وسواء كانت { بَعُوضَةً } مستحقرة عندكم أو أحقر منها { فَمَا فَوْقَهَا } في الحقارة والخساسة كالبق والنمل ، فلا يبالي الله في تمثيلها ؛ إذ عند الكل على السواء { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ } صدقوا النبي الأمي صلى الله عليه وسلم و { آمَنُواْ } بما جاء به من عند ربه { فَيَعْلَمُونَ } علماً يقيناً أن التمثيل بهذه الأمثال { أَنَّهُ ٱلْحَقُّ } الثابت الصادر { مِن رَّبِّهِمْ } الذي رباهم بكشف الأمور على ما هي عليه . { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } أعرضوا عن تصديق الله ورسوله { فَيَقُولُونَ } مستهزئين متهكمين على سبيل الاستفهام { مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ } المقدس عن جميع الرذائل المتصف بالأوصاف الحميدة { بِهَـٰذَا } الحقير الخسيس بأن يضرب { مَثَلاً } بهذا تعريض على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبلغ وجه ؛ يعني : ما جئت به من عندك كلمات مفتريات بعضها فوق بعض ، أسندته إلى الله لتروجها على أولي الأحلام الضعيفة ، ومن غاية استكبارهم ونهاية جهلهم المقتضي لعمى القلب لم يروا الحكمة في تمثيله ، ولم يعلموا أنه { يُضِلُّ } الله باسمه المنتقم { بِهِ } بسبب إنكار هذا المثال { كَثِيراً } من المستكبرين المستحقرين بعض المظاهر { وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } من الموحدين الموقنين الذين لا يرون في المظاهر إلا الله ، ففي هذا المشهد لا يسع الإضافات المستلزمة للاستعظام والاستحقار ، بل سقط هناك جميع الاعتبار ، ثم بيَّن سبب إضلاله له فقال : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ ٱلْفَٰسِقِينَ } [ البقرة : 26 ] . { ٱلَّذِينَ } يخرجون عن طريق التوحيد باستحقار بعض المظاهر { يَنقُضُونَ } يفصمون { عَهْدَ ٱللَّهِ } الذي هو حبله الممدود من أزل الذات إلى أبد الأسماء والصفات سيما { مِن بَعْدِ } توكيده بذكر { مِيثَٰقِهِ } الموثق بقوله : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [ الأعراف : 172 ] ، وقولهم : { بَلَىٰ } [ الأعراف : 172 ] وبعدما نقضوا العهد الوثيق الذي من شأنه ألاَّ ينقضِ لم يفزعوا ولم يتوجهوا إلى جبره ووصله ، بل { وَيَقْطَعُونَ } التوجه عن امتثال { مَآ أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ } في كتابه المنزل { أَن يُوصَلَ } به ما نقض من عهده ، ومع ذلك لا يقنعون بنقض العهد وقطع الوصل المختصين بهم ، بل { وَيُفْسِدُونَ فِي ٱلأرْضِ } بأنواع الفسادات السارية من إفسادٍ واعتقاد الضعفاء ، والبغض مع العرفاء الأنساء - وفي نسخة أخرى : ا لأمناء - والمخالفة مع الأنبياء والأولياء { أُولَـۤئِكَ } البعداء عن طريق التوحيد { هُمُ ٱلْخَٰسِرُونَ } [ البقرة : 27 ] المقصورون على الخسران الكلي الذي لا خسران فوقه ، أعاذنا الله من ذلك . ثم استفهم سبحانه مخاطباً لهم ، مستبعداً عما صدر عنهم من الكفر والطغيان على سبيل الكناية تحريكاً لحمية الفطرة التي فطر الناس عليها ، وتذكيراً لهم بالعهود التي عهدوا مع الله في استعدادتهم الأصلية بقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } وتشركون { بِٱللَّهِ } الذي قدر وجودكم في علمه السابق أراد إيجادكم { وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ } أظهركم من العدم بمد ظله عليكم ، وبعدما أظهركم أنعم عليكم ورباكم في النشأة الأولى بأنواع النعم ؛ لتعرفوا المنعم وتشكروا له في مقابلتها { ثُمَّ } بعد تربيتكم في النعم { يُمِيتُكُمْ } يخرجكم من النشأة الأولى إظهاراً لقدرته وقهره { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } أيضاً في النشأة الأخرى لتجزى كل نفس بما كسبت في النشأة الأولى { ثُمَّ } بعدما قطعتم المنازل وطويتم المراتب والمراحل { إِلَيْهِ } لا إلى غيره من الأظلال { تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] إذ لا وجود للغير ليرجع إليه ، فلا مرجع إلا هو ولا مآب بسواه ، لا إله إلا هو ، كل شيء هالك إلا وجهه ، له الحكم وإليه ترجعون .