Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 20, Ayat: 126-135)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قَالَ } سبحانه توبيخاً عليه وتقريعاً : { كَذٰلِكَ } أي : مثل ذلك فعلتَ بنا حين { أَتَتْكَ } بلسان الأنبياء { آيَاتُنَا } لهدايتك وإصلاح حالك { فَنَسِيتَهَا } ونبذتَها وراء ظهرك فكانت نسبتُك إليها كنسبة الأعمى إلى الأشياء المحسوسة { وَكَذٰلِكَ } أي : كالمنبوذ وراء الظهر { ٱلْيَوْمَ تُنْسَىٰ } [ طه : 126 ] أنت في جهنم العبد والحرمان . { وَكَذٰلِكَ } أي : مثل نسيان من أعرض في العذاب { نَجْزِي } ونترك منسياً في جهنم { مَنْ أَسْرَفَ } وأفرط في الإعراض عن الله ورسله بمتابعة العقل واعتباراته ومضى عليها زماناً { وَلَمْ يُؤْمِن } أي : لم يُذعن ولم يُوقن { بِآيَاتِ رَبِّهِ } النازلة على أنبيائه ورسله ، ولم ينتبه لمرموزاتها ومكنوناتها { وَ } الله وإن احتمل الشدائد ، وارتكب المتاعب في تحصيل تلك الاعتبارات { لَعَذَابُ ٱلآخِرَةِ } في شأنه لاشتغاله بغير الله وإعراضه عن آياته { أَشَدُّ } من شدائد ذلك التحصيل { وَأَبْقَىٰ } [ طه : 127 ] وأدوم وباله من النخوة المترتبة عليها . { أَ } ينكر القريشي بآياتنا ويصر على إنكارها ، ولم يذكر عذابنا لمنكري آياتنا { فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ } ولم يرشدهم لم يذكّرهم إهلاكنا الأمم السالفة بسبب إنكار الآيات وتكذيب الرسل ؛ إذ { كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ } أي : أهلكنا كثيراً من أهل القرون الماضية حين { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } أمثالهم أصحاء سالمين فجاءهم بأسنا بياتا أ , نهارا ، فجعلناهم هالكين فانين ، كأن لم يكونوا موجودين أصلاً لإعراضهم عنَّا وتكذيبهم آياتنا ورسلنا { إِنَّ فِي ذَلِكَ } الإهلاك { لآيَاتٍ } دلائلَ ظاهرةٍ على قدرتنا على الانتقام على المعرضين المكذِّبين لكتبنا ورسلنا ، لكن لا تحصل تلك الدلائل إلا { لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } [ طه : 128 ] أصحاب العقول المنتهية مقتضى عقولهم إلى الشهود . { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } يا أكمل الرسل في حق أمتك بدعائك لهم ، وهو ارتفاع العذاب عنهم في دار الدنيا من المسخ والكسف ، وغير ذلك من أهلكنا به الأمم الماضية { لَكَانَ } عذاب المنافقين اليوم { لِزَاماً } أي : لزاماً حتماً لازماً مبرماً لظهر أسبابه منهم { وَ } لكن قُدِّر له { أَجَلٌ مُّسَمًّى } [ طه : 129 ] وهو يوم الجزاء . { فَٱصْبِرْ } يا أكمل الرسل { عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } إلى حلول الأجل المسمى ، ولا يضيق صدرك من قولهم : إنكَ لا تقدرُ على إتيان العذاب بمقتضى دعواك ، لذلك تخوفنا بالقيامة الموهومة ، فلو كنتَ رسولاً مثل سائر الرسل لفعلتَ بنا ما فعلوا بأممهم { وَ } إذا سمعت أقوالهم الخشنةَ أعْرضْ عنهم ، ولا تلتفت إليهم ، ولا تشغل إلى المعارضة معهم . بل { سَبِّحْ } ونزه ربك عما يقولون من إنكار يوم الجزاء تسبيحاً مقروناً { بِحَمْدِ رَبِّكَ } شكراً لنعمائه وآلائه الواصلة إليك ، وداوم عليه { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ } بعد انتباهك من منام غفلتك ، وقبل اشتغالك في أمور معاشك { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } بعد فراغك عن كسب المعاش ، وقبل استراحك بالمنام { وَمِنْ آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ } المعدِّ للاستراحة إن أيقظتَ فيها { فَسَبِّحْ وَ } سبح أيضاً { أَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ } إذا فرغتَ عن الاشتغال { لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ } [ طه : 130 ] عن الله في جميع الأوقات ، ويرضى الله فيها . { وَ } عليك الاعتزال من أبناء الدنيا وعدم الالتفات إلى لذاتهم بمتاعها ومزخرفاتها ؛ بحيث { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } حال كونك متحسراً متمنياً مثله { إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ } المنافقين المشركين { أَزْوَاجاً } أصنافاً من كل شيء ؛ لأن من أعطينا { مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } أي : زينتها وزخرفتها { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } نجربهم ، ونخبترهم كيف يعيشون بوجودها في الدنيا ، هل يتكبرون ويفتخرون بسببها على الفقراء ويمشون على وجه الأرض خيلاء أم لا ؟ . { وَ } إذا نبهناك عن متاع الدنيا استرزق منا عما في خزائننا من المكاشفات والمشاهدات بدل تلك اللذات الفانية ؛ إذ { رِزْقُ رَبِّكَ } الذي رزقك بها ؛ ليكون لك الكشف والشهود والتمكن في المقام المحمود { خَيْرٌ } لك من مزخرفات الدنيا ومموهاتها لأنها فانيةُ زائلةُ لا ثبات لها { وَ } هو { أَبْقَىٰ } [ طه : 131 ] لك لبقائه مع استعدادك إلى ما شاء اللهز { وَ } إذ رزقت ما رزقت تفضلاً من ربك ، فعليك أن تأمر من يلازمك ويؤانسك من أهل الطلب بالميل إلى ما رزقك الله ؛ ليكون لهم نصيبُ مما تفضل الله به عليك من الرزق المعنوي لذلك أمرناك بقولنا : { أْمُرْ أَهْلَكَ بِٱلصَّلاَةِ } الشاغلة جميع قوامهم عن التوجه إلى غيرنا ؛ ليكون منبهاً عليهم على ما في استعدادهم { وَٱصْطَبِرْ عَلَيْهَا } أي : تحمَّل على متاعب تبليغها ، ولا تقصِّر خوفاً من انتقاص رزقك ؛ لأنا { لاَ نَسْأَلُكَ } أي : لا نسأل منهم { رِزْقاً } وجُعلاً لأجلك منهم حتى يشقَّ عليهم ، بل { نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } وإياهم من مقام جودنا ونوالِ إفضالنا من غير أن ينقص من خزائننا شيءٌ . ونبِّههم أيضاً على العواقب الحميدة المترتبة على الصلاة ، وجنِّبهم عن شواغلها { وَ } قل لهم : { ٱلْعَاقِبَةُ } الحميدة { لِلتَّقْوَىٰ } [ طه : 132 ] أي : المتصفين بالتقوى ؛ أي : الراضين عن الله بما يرضى لهم ويأمرهم ، المجتنبين عما لا يرضى منه سبحانه . ولما سمعوا كشفك وشهودك ورزقك الأوفى من عند ربك ، وإرشادك على من آمن بك ، أصروا على الإنكار { وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا } هذا المدعي للكشف والشهود { بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ } مقترحةً لم نصدّق ولم نقرّ برسالته ، قل لهم يا أكمل الرسل : { أَ } ينكرون إتيان الآيات المقترحة على الأمم الماضية { وَلَمْ تَأْتِهِمْ } في هذا الكتاب المعجز المذكر لهم { بَيِّنَةُ مَا فِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ } [ طه : 133 ] من إتيان الآيات المقترحة على الأنبياء الماضين ، ومع ذلك لم يؤمنوا بهم أممهم ، بل كانوا يكذبونهم ويصرون على ما كانوا عليه من الكفر والضلال ، فهؤلاء أيضاً أمثالهم . { وَ } قل لهم يا أكمل الرسل أيضاَ قولنا هذا { لَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ } نازل من عندنا لإصرارهم وعنادهم { مِّن قَبْلِهِ } أي : من قبل إرسالك إليهم { لَقَالُواْ } حين نزول العذاب مثلما قالت تلك الأمم الهالكة عند نزوله : { رَبَّنَا لَوْلاۤ } هلا { أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } من عندك { فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } الالة على توحيدك { مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ } بهذا الإذلال { وَنَخْزَىٰ } [ طه : 134 ] بهذا الخزي والوبال . وإن عاندوا معك بعد سماع هذه الدلائل الواضحة والتنبيهات اللائحة ، أعرضْ عن مكالمتهم ومناصحتهم ، و { قُلْ } لهم كلاماً يشعر باليأس عن إيمانهم وإصلاحهم { كُلٌّ } منا ومكنم { مُّتَرَبِّصٌ } منتظرْ لهلاك الآخر بسبب الشقاوة الإعراض عن الحق { فَتَرَبَّصُواْ } أو انتظروا أنتم لهلاكنا بشقائنا ، فإنا منتظرون أيضاً بهلاككم بالشرك والطغيا ، وإذا كُشفَ الغطاء ، وظَهرَ يوم الحشر والجزاء { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ ٱلصِّرَاطِ ٱلسَّوِيِّ } المستقيم المتمكن الغير المعوج المتلون ، أنحن أم أنتم { وَمَنِ ٱهْتَدَىٰ } [ طه : 135 ] منَّا من تيه الضلال إلى فضاء الوصال ؟ ! . خاتمة السورة عليك أيها المحمدي الطالب لسلوك طريق الحق بالاستقامة التامة ، والتشبث عليه بلا اعوجاج وتزلزلٍ ؛ لتهتهدي بسلوكه إلى زلال الوحدة الذاتية التي هي ينبوع بحر الوجود ومنشأ جميع الموجود أن تقتفي أثر نبيك صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله وأعماله ، وتتخلق بأخلاقه ، وتتصف بأوصافه حسبما أمكنك وقدْر ما يسر لك . ولا تُهمل دقيقةً من دقائق الشرع الشريف بل بك أن تتبع به صلى الله عليه وسلم في جميع ما جاء به من قِبَل ربه ، وأنشأه من عند نفسه بلا تفحصٍ وتفتيشٍ عن سرائره ، حتى ينكشف لك بعد الوصول إلى مرتبتك التي كلفك الحق إليها وجبلك لأجلها ، فحينئذ ظهر لك جميع ما أوصاك به نبيك صلى الله عليه وسلم ورمز إليه ، وصرتَ من أهل المعرفة والإيقان إن شاء ربك ، ووفقك عليه . وفقنا يا رب بفضلك وجودك إلى معارج عنايتك ومقر توحيدك يا ذا الجود العظيم .