Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 52-64)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ قَالَ } موسى : لا أعرف حالهم من الهداية والضلالة ؛ إذ { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي } لا يوحي إليَّ من أحوالهم شيئاً بل أحوالهُم ثابتةُ عنده سبحانه { فِي كِتَابٍ } هو حضرة علمه الأزلي على التفضيل ؛ بحيث { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي } أي : لا يغيب عن أحوالهم شيءُ من عمله سبحانه { وَلاَ يَنسَى } [ طه : 52 ] ربي شيئاً من ملعوماته ؛ إذ علمه حضوريُ بالنسبة إلى جميع الأشياء ، والعلمُ الحضوريُّ لا يجري فيه الغيب والنسيانز ثم قال موسى دفعاً للاثنينية الناشئة من الإضافة : ربنا هو ربكم { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً } مكاناً تستقرون فيه وتستريحون { وَسَلَكَ } أي : قدَّر { لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } مختلفةً بعضها جبلاً ترتحلون إليه في الصيف ، وبعضها سهلاً ترجعون إليه في الشتاء ، حتى يكمل استراحتكم فيها ، { وَ } مع ذلك { أَنزَلَ } لكم لتكميل استراحتكم أيضاً { مِنَ ٱلسَّمَآءِ } أي : عالم الأسباب { مَآءً } لإحياء الأرض الميتة { فَأَخْرَجْنَا } أي : أنشأَنا وأنبتنا { بِهِ } أي : بسبب الماء فيها { أَزْوَاجاً } وأصنافاً { مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ } [ طه : 53 ] مختلفةٍ ؛ ليكون مفرّجاً لغمومكم مقوياً لنفوسكم . وإذا احتجتم إلى الغذاء { كُلُواْ } منها ؛ حيث شئتم رغداً { وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ } التي تستريحون بسببها من أكلها وحملها وركوبها { إِنَّ فِي ذٰلِكَ } الجَعَل والإنزال والإخراج { لآيَاتٍ } دلائلَ واضحاتٍ على قدرتنا واختبارنا { لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } [ طه : 54 ] الناهين عقولهم عن إسناد الأمور إلى الأسباب بل يسندونها إلى مُسَبِّبها أولاً وبالذات . وإذا تأملتم في بدائع مصنوعاتنا وغرائب مخترعاتنا على وجه الأرض جزمتم أنا { مِنْهَا } أي : من الأرض { خَلَقْنَاكُمْ } وأوجدناكم بقدرتنا واختيارنا إيجاد النبات منها وقت الربيع { وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ } أيضاً بالآجال المقدرة لانقضاء حياتكم ، إفناء النبات في أيام الخريف { وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ } للحشر والعرض في يوم الجزاء { تَارَةً أُخْرَىٰ } [ طه : 55 ] . { وَ } مع أمرنا لموسى وأخيه المسلَين إليه بتليين القول ، والتنبيه بدلائل الآفاق والأنفس { لَقَدْ أَرَيْنَاهُ } تحقيقاً وتأكيداً ؛ لئلا يبقى عنا جداله ، حين أخذنا بظلمه في وقت الجزاء ، مع علمنا بأنه من الهالكين في بيداء البُعد والعناد { آيَاتِنَا } الدالة على صدق موسى المرسَل { كُلَّهَا } متعاقبة مترادفة ، وهي : العصا واليد البيضاء والطوفان والجراد والقمّل والضفادع والدم والسنين والطمس { فَكَذَّبَ } بجميعها { وَأَبَىٰ } [ طه : 56 ] فامتنع عن تصديق شيءٍ منها ، بل نسب الكل إلى السحر والشعبذة . { قَالَ } اغتراراً بعلو شأنه ورفعة مكانه ، مستفهماً على وجه التهكم والإنكار : { أَجِئْتَنَا } متمنياً لرئاستنا مع غاية حقارتك وضعفك { لِتُخْرِجَنَا } مع كمال عظمتنا وقوتنا { مِنْ أَرْضِنَا } التي استقررنا عليها زماناً طويلاً { بِسِحْرِكَ } الذي تعلمت من شياطين الأمة في بلاد الغربة { يٰمُوسَىٰ } [ طه : 57 ] المتمني محالاً ، ولولا خشيتي من اشتهار عجزي من دلائلكوأباطيلك لقتلك ألبتة فالزم مكانك . { فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ } من أنواع السحر كامل من سحرك لا من نوعٍ آخر بل من { مِّثْلِهِ } أي : مثل سحرك كاملُ منه ، قُمْ من عندي وتأمل في أمرك ؛ إن شئت تُبْ من هذياناتك وفضولك وارجع إليّ بالاستغفار حتى أغفر زلتك ، وإن شئتَ { فَٱجْعَلْ } أي : عيِّن وقتاً من الأوقات ؛ ليكون { بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } ثم عين { مَكَاناً سُوًى } [ طه : 58 ] أي : مسوى لا حائلَ فيه بحيث يرى كل أحد ما يجري بيننا حتى تفتضح على رءوس الأشهاد . { قَالَ } موسى : إن معي ربي سيقويني لا أخاف من معارضتك بالسحر وتعيين موعد إتيانك ، بل { مَوْعِدُكُمْ } للمعارضة مع المعجزة { يَوْمُ ٱلزِّينَةِ } أي : يوم العيد ؛ إذ يجتمع فيه الأقاصي والأداني { وَ } لا يكون وقت تفرقهم إلى بيوتهم { أَن يُحْشَرَ ٱلنَّاسُ ضُحًى } [ طه : 59 ] أي : في وقت الضحوة المعدة لإظهار الزينة ، ليظهر كل منهم على صاحبه زينةً ؛ ليكون إعجازي لك أبعد من أن يرتاب فيه أحد . { فَتَوَلَّىٰ فِرْعَوْنُ } وانصرف عن مكالمة موسى استكباراً { فَجَمَعَ كَيْدَهُ } أي : أمر بجميع سَحَرةِ مملكته ليُرِىَ القاصرين أن ما جاء به موسى من جنس السحر { ثُمَّ أَتَىٰ } [ طه : 60 ] الموعد المعين مع ملئه وسَحَرَتِه . وبعدما حضروا الموعد { قَالَ لَهُمْ } أي : للسحرة { مُّوسَىٰ } على مقضتى شفقة النبوة أو بإلقاء الله إياه بطريق الإلهام كلاماً خالياً عن الميل إلى الخصومة إمحاضاً للنصح : { وَيْلَكُمْ } أي : ويلُ لكم ايها العقلاء التاركومن طريقَ العقل بمتابعة هذا الطاغي { لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } بأن أفعاله مما يعارَض بالسحر والشعوذة ؛ لأن ما جئتُ به من الآيات مما آتاني الله من فضله ، وإن افتريتم على الله { فَيُسْحِتَكُم } أي : يهلككم ويستأصلكم { بِعَذَابٍ } نازلٍ من قهره { وَقَدْ } تحقق عندكم أيها العقلاء أنه { خَابَ } خيبةً أبديةً { مَنِ ٱفْتَرَىٰ } [ طه : 61 ] على الله بما لا يليق بذاته من إبطال قدرته أو دعوى المعارضة معه . فإذا سمع السحرة من موسى قوله هذا ، وتأملوا فيه تأملاً صادقاً ، وجدوه صادراً عن محض الحكمة والفطانة ، فلذلك تأثروا من قوله تأثراً عظيماً { فَتَنَازَعُوۤاْ } وتشاوروا { أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } بأن أمثال هذا الكلام لا يصدر إلا من المؤيَّدِ من عند الله ، المستظهِر به سبحانه ، ما يشبه كلام السحرة المعارضين ، فمآل كل منهم في نفسه إلى تصديقه { وَأَسَرُّواْ ٱلنَّجْوَىٰ } [ طه : 62 ] أي : مناجاتهم في أنفسهم من فرعون وملئه ، فتمكن فرعون وملئه في معرض المعارضة وقابلوا السحرة لممانعتهما . { قَالُوۤاْ } أي : فرعون وأشرافهم للسحرة تقويةً لهم في أمرهم : { إِنْ هَـٰذَانِ } الرجلان الحقيران { لَسَاحِرَانِ } يدَّعيان الرسالة من ربهما الموهوم ترويجاً لسحرهما ، وبعد الترويج { يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ } المألوفة { بِسِحْرِهِمَا } أي : بمجرد سحرهما لا من أمرٍ سماويٍ كما زعمان ، وبعد إخراجكم من أرضكم يريدان الاستقرار والاستيلاء على عموم ملك العمالقة { وَيَذْهَبَا } بعد التقرر والتمكن { بِطَرِيقَتِكُمُ ٱلْمُثْلَىٰ } [ طه : 63 ] أي : عادتكم العظمى ومرتبتكم العليا . وبالجملة : يريدان أن يجعلا أمرنا وأمر بني إسرائيل بالعكس ؛ ليكون لهم الكبرياء ولنا المذلة والهوان ، بعكس ما كان من سالف الزمان . وإذا سمعتم نُبَذاً من مقاصدهما { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ } أي : هيئوا جميع أسباب سحركم ؛ بحيث لا تحتاجون لدى الحاجة إلى شيءٍ من أدواته { ثُمَّ ٱئْتُواْ } عليها { صَفّاً } أي : صافِّين مجتمعين بمقابلتهما ؛ لأنه أدخلُ في المهابة { وَ } اعلموا أنه { قَدْ أَفْلَحَ ٱلْيَوْمَ } أي : فازَ ووصلَ بانواع العطاء والمواهب { مَنِ ٱسْتَعْلَىٰ } [ طه : 64 ] وغلبَ عليهما .