Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 22, Ayat: 75-78)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ومن علو شأنه ، وسمو برهانه ، وكمال قوته ، وعزته يُتوسل إليه ، ويُتوصل نحوه بوسائل ووسائطَ اختارها الله واجتباها من بين بريته لإهداء التائهين في بيدان ألوهيته إلى زلال توحيده على مقتضى سنته ، وجري حكمته ، كما بيَّن في كتابه حيث قال : { ٱللَّهُ } العلي المتعال ذاته عن أن يكون شرعة كل وارد ، أو يطلع على سرائر أسمائه وصفاته واحدُ بعد واحدٍ ، بل { يَصْطَفِي } ويختار { مِنَ ٱلْمَلاَئِكَةِ } المقربين عنده { رُسُلاً } يرسلهم إلى خواص البشر ، وخَلَّص العباد { وَ } أيضاً يصطفي ويختار { مِنَ } خيار { ٱلنَّاسِ } رسلاً يرسلهم إلى عموم عباده بالنبوة والرسالة ليرشدوهم إلى توحيده سبحانه ويهدوهم إلى سواء طريقه { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع لاستعدادات عباده { سَمِيعٌ } يسمع أقوالهم ومناجاتهم ويقضي حاجاتهم { بَصِيرٌ } [ الحج : 75 ] يبصر أعمالهم وأفعالهم ويجازيهم عليها ، لأنه : { يَعْلَمُ } سبحانه بعلمه الحضوري { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } حالاً { وَمَا خَلْفَهُمْ } ماضياً واستقبالاً { وَ } بالجملة { إِلَى ٱللَّهِ } الذي بدأ منه ما بدأ { تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } الحج : 76 ] الكئنة أزلاً وأبداً ، ظاهراً وباطناً ، حالاً ومآلاً ، دنياً وآخره . { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بتوحيد الله ورجوع الكل إليه أولاً وبالذات { ٱرْكَعُواْ } نحوه خاضعين منكسرين { وَٱسْجُدُواْ } له متذللين متواضعين { وَاعْبُدُواْ } بجميع أركانكم وجوارحكم { رَبَّكُمْ } الذي ربَّاكم بأنواع النعم كي تعرفوا ذاته حسب استعداداتكم ، وتشكروا نعمه وحقوقَ كرمه مقدارَ وسعكم ، وتعبدوه حق عبادته قدر طاقتكم { وَ } بالجملة : { وَٱفْعَلُواْ ٱلْخَيْرَ } على وجه أمرتم به طلباً لمرضاته ، واحذروا الشر خوفاً من سخطه وحلول غضبه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الحج : 77 ] وتفوزون بما وُعدتم من الجنة المأوى وشرف اللقيا فيها . وفقنا بفضلك وجودك على ما تحب منَّا وترضى . { وَ } بعدما سمعتم ما سمعتم من علو شأنه سبحانه ، وكمال عظمته وكبريائه { جَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ } واجتهدوا في سبيل توحيده { حَقَّ جِهَادِهِ } أي : ابذلوا وسعكم وطاقتكم في سلوك طرق التوحيد ، مرابطين قلوبكم إلى الله ، باذلين مهجكم في الفناء فيه ، وكيف لا تجاهدون وترابطون أيها المائلون إلى الله بالميل الحبّي الشوقي مع أنه { هُوَ } سبحانه { ٱجْتَبَاكُمْ } واصطفاكم من بين البرايا لإدراك توحيده والاتصاف بعرفانه ، وأرسل عليكم الرسل ، وأنزل عليكم الكتب ليرشدكم إليه ، ويبينوا لكم طريق توحيده بوضع المناهج والشرائع الموصلة إلأيه ، والأديان المثمرة له { وَمَا جَعَلَ } سبحانه { عَلَيْكُمْ فِي ٱلدِّينِ } الموضوع فيكم { مِنْ حَرَجٍ } ضيق وعسر خارج عن وسعكم وطاقتكم ، بل وسّع سبحانه عليكم أمر دينكم بأن جعل ملتكم { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } صلوات الرحمن عليه ، إذ لا ضيق فيه ولا حرج . أضاف أبوة إبراهيم إلى الأمة من أجداد الرسول صلى الله عليه وسلم ، والرسول أب لهم ؛ إذ رسول كلِّ أمة أ بُ ب النسبة إلى أمته ، بل هو خير الآباء ؛ لإرشادهم إلى طريق الحق ، ولا معنى للأب إلا المرشد المربي . وكما جعل سبحانه ملتكم ملة إبراهيم { هُوَ } بذاته { سَمَّاكُمُ ٱلْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ } في كتبه السالفة حيث قال سبحانه : من يؤمن ويصدق بمحمد خام النبوة والرسالة يصير مسلماً { وَفِي هَـٰذَا } الكتاب بيَّنَ التسمية على وجه التسليم فسماكم فيه أيضاً : مسلمين ضمناً ، وإنما سماكم مسلمين مسلِّمين منقادين { لِيَكُونَ ٱلرَّسُولُ } الذي هو أكمل الرسل وأفضل الأنبياء { شَهِيداً عَلَيْكُمْ } شاهداً على انقيادكم وتسليمكم في يوم الجزاء ، فتكونوا أفضل الأمم وأشرف الفرق ، وبواسطة كونكم أ مته وزمرته وتحت لوائه { وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى } عموم { ٱلنَّاسِ } بتبليغ الرسالة إليهم وإظهار الدعوة لهم ، وإذا كنتم خير أمة وأشرفَ طائفة { فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } وأديموا الميل والتوجه نحو الحق بجميع الجوارح والأركان تقرباً إليه شوقاً وتحنناً { وَآتُواْ ٱلزَّكَـاةَ } المسقطة لميلكم إلى زخرفة الدنيا وحطامها { وَ } بالجملة { ٱعْتَصِمُواْ بِٱللَّهِ } في كل الأحوال ، واثقينَ بفضله وجوده ، وفوضوا أمروكم كلها إليه ، متوكلين عليه { هُوَ مَوْلاَكُمْ } أي : ناصركم ومعينكم ومولّي أموركم { فَنِعْمَ ٱلْمَوْلَىٰ } الولي المعين { وَنِعْمَ ٱلنَّصِيرُ } [ الحج : 78 ] الناصر المعين ، ذو القوة المتين ، حسبنا الله ونعم الوكيل . خاتمة السورة عليك أيها السالك المجاهد في سبيل الله أعداءَ الله وموانعَ الوصول إلى توحيده أن تجاهد أولاً مع نفسك التي بين جنبيك ، إذ هي من أعدى عدوك ، وأشد صولة واستيلاء إلى مملكة باطنك وقلبك الذي هو مخيم سرادقات سلطان الوحدة ، ومحل نزول قهرمان العزة ، ومهبط الوحي الإلهي والوارد الغيبي ، فلك أن تزيل صولتها ، وتشتت شملها ، وتفرق جمعها التي هي جنودها وأنواعها من القوى الشهوانية والغضبية ، وجميع الأوصاف البهيمية المتداعية إلى تخريب القلب ، وتعمير النفس الأمّارة بالسوء ، وتقويتها وتقويمها ؛ إذ عداوتها ومنعها ذاتية حقيقية وبلا واسطة ، وعداوةُ سائر الموانع بواسطتها . وإياك الإطاعة والانقياد إليها ، فإنها تشغلك عن الحق ، وتضلك عن سبيله وتغريك إلى الباطل وتقودك إلى طريقه . فاعلم أيها المجاهد الطالب للغلبة على جنود النفس الأمارة أنه لا يمكن لك هذا إلا بالاعتزال عن إقطاع الشيطان ومهلكة النفس ومشتهياتها ومستلذاتها بالكلية ، والتشمر نحو الحق بالعزيمة الخالصة عن الرياء والرعونات والانخلاع عن مقتضيات الأوصاف البشرية بالإدارة الصادقة ، والتوجه نحو الوحدة الذاتية عن طريق الفناء بإسقاط الإضافات المشعرة لتوهم الكثرة . وبالجملة لا يتم سلوك السالك في طريق التوحيد إلا بالفناء في الله ، والبقاء ببقائه . ربنا هب لنا من لدنك جذبة تنجينا عن مضائق هوياتنا ، وتوصلنا إلى فضاء توحيدك بمنك وجودك .