Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 23, Ayat: 109-118)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
أما تستحيون أيها المسرفون تذكروا ما أنتم عليه { إِنَّهُ } أي : إن شأنكم وأمركم في دنياكم { كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ } خُلّص { عِبَادِي يَقُولُونَ } متضرعين متحننين نحونا راجعين العفو والرحمة منا بقولهم : { رَبَّنَآ } كما ربيتنا بأنواع الكرم { آمَنَّا } وصدقناك بالربوبية والألوهية { فَٱغْفِرْ لَنَا } ذنوبنا واستر لنا عيوبنا { وَٱرْحَمْنَا } تفضلاً علينا وامتناناً { وَأَنتَ خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ } [ المؤمنون : 109 ] إذ رحمتك بنا لا تُعَلَّلُ بغرضٍ منك وعوضٍ منا . ومتى سمعتم مناجاتهم هذه ، ودعاءهم هذا { فَٱتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً } وصرتم مستهزئين بأقوالهم وأعمالهم ، متمادين في الهزء والسخرية ، متوغلين في الغفلة والغرور { حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ } جهلَكم وغفلَتكم { ذِكْرِي } والتوجه نحوي ، والرجوع إليِّ بل صرتم غافلين ذاهلين ، محرومين عن كمال الإنسان ، منحطين عن رتبة الخلافة ، مستحقين لأنواع السخرية والضحكة { وَ } مع ذلك { كُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } [ المؤمنون : 110 ] مع أنهم ساعون نحونا ، سالكون في طريق توحيدنا ، طالبون الوصول إلى ما هم جبلوا لأجله . لذلك { إِنِّي } من كما لطفي وإشفاقي معهم { جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ } أحسن انلجزاء { بِمَا صَبَرُوۤاْ } على أذاكم أيها الجاهلون في النشأة الأولى ، وهم بسبب صبرهم وتمكنهم على أذاكم في دنياكم حفظاً لدينهم وإيمانهم { أَنَّهُمْ } القوم { هُمُ ٱلْفَآئِزُونَ } [ المؤمنون : 111 ] المقصورون على الفوز والفلاح إلى ما هو النجاة و النجاح ، بـ { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 38 ] . وبعدما صاروا مخلَّدين مؤبَّدين في النار ، صاغرين مهانين فيها { قَالَ } قائلُ من قِبَل الحق على سبيل التوبيخ والتقريع إظهاراً لقبح استبدالهم ، واختيارهم الأدنى بدل الأعلى : { كَمْ لَبِثْتُمْ } أيها الضالون المسرفون { فِي ٱلأَرْضِ } التي كنت تستكبرون عليها خيلاءَ مغرورين { عَدَدَ سِنِينَ } [ المؤمنين : 112 ] أي : كم مدةً وسنةً استقررتم عليها متفوهين ؟ ! . { قَالُواْ } مستقصرين مستحقرين : { لَبِثْنَا } عليها { يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } أي : بل بعض يوم بالنسبة إلى هذه الأيام الطوال التي كنا فيها مذنبين ، بل نسينا نحن مدة ما كنا عليها لغاية قصرها ولا نقدر عليها { فَسْئَلِ ٱلْعَآدِّينَ } [ المؤمنون : 113 ] المعاصرين بنا من أهل القبول والسرور ، والموكَّلين علينا من الموكلين علينا من الملائكة ، المستحضرين لأعمارنا وأعمالنا وجميع ما كنا عليها من الأحوال . { قَالَ } القائل المذكور في جوابهم تصديقاً لهم في مقالهم واستقلالهم : { إِن لَّبِثْتُمْ } أي : ما لبثتم فيها { إِلاَّ قَلِيلاً } قصيراً في غاية القلة والقصر { لَّوْ أَنَّكُمْ } أيها الضالون المسرفون { كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } [ المؤمنون : 114 ] في أنفسكم طول مدة العذاب وعدم تناهيها ، لما اخترتم لأنفسكم ما يستجلب عليكم العذاب ويوقعكم فيه ، ومع جهلكم هذا لم تقبلوه من الأنبياء العارفين الهادين أيضاً ، بل أنكرتم عليهم واستهزأتم مستكبرين مستنكرين . { أَ } تزعمون أيها الجاهلون المعاندون أن أفعالنا خاليةُ عن الحكمة والمصلحة ومقدوراتنا صدرتْ عنا حشواً بلا طائلٍ { فَحَسِبْتُمْ } وظننتم بل جزمتم وأيقتنم { أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ } وأظهرناكم من كتم الع دم { عَبَثاً } أي : عابثين ساعين فيها بلا طائلٍ مرتكبين لهم بلا حِكَمِ ومصالحَ { وَ } أيضاً ظننتم أيها الغافلون الجاهلون { أَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] للجزاء وتنقيد الأعمال وعرض الأحوال . وكيف لا تُرجون إلى ربكم أيها المجرمون ، وكيف عن أعمالكم لا تُسألون أيها المسرفون ولا تحاسبون ؟ ! { فَتَعَالَى ٱللَّهُ } المحيط للكل حضوراً وشهوداً أن يتصف ذاته بالغفلة والذهول ، وأوصافه بعدم الحيطة والشمول ، وأفعاله بالعبث والفضول ؛ إذ هو { ٱلْمَلِكُ } المستحضِر لجميع مماليكه ، لا يعزب عنه مثقال ذرةٍ في الأرض ولا في السماء ، وكيف يعزم ويغيب عنه شيء من الأشياء ؛ إذ هو { ٱلْحَقُّ } الثابت المحقق والقيوم المطلق المثبت ، لا يشغله شأُ عن شأنٍ ، وهو في شأنٍ لا يعرضه شأن ، ولا يعتريه زمانُ ومكانُ بل الشئون كلها مندرجةُ في علوٍّ شأنه ؛ إذ { لاَ إِلَـٰهَ } في الوجود { إِلاَّ هُوَ } لأنه { رَبُّ ٱلْعَرْشِ ٱلْكَرِيمِ } [ المؤمنون : 116 ] المحيط لذرائر الكائنات ، وهو الوجود العيني الظلي الكامن الفائض من حضرة القدوس على هياكل العكوس . { وَ } بعدما تحقق أن الكل في حيطة أوصافه وأسمائه ، ومن أضلاله ، وتحت لوائه { مَن يَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ } المحيط للكل { إِلَـهَا آخَرَ } من الأضلال المحاطة والعكوس الساقطة مع أنه { لاَ بُرْهَانَ لَهُ } يثبت به وجود إله آخر سواه ، بعدما شمل سواه سبحانه الكل وأحاط { بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ } أي : حساب المدعي ، وجزاء ما ادعى من الشرك { عِندَ رَبِّهِ } يجازيه على مقتضى علمه { إِنَّهُ } أي : إن الشأن والأمر عنده سبحانه إنه { لاَ يُفْلِحُ } ولا يفوز { ٱلْكَافِرُونَ } [ المؤمنون : 117 ] بكفرهم وشركهم إلى ما هو موجبُ للفلاح والنجاح ؟ { وَ } بعدما أثبت سبحانه الفلاحَ للمؤمنين الموحِّدين في أول السورة ، ونفاه عن الكافرين المشركين في أخرها { قُل } يا أكمل الرسل تعليماً لكل من يقتدي بك ويقتفي أثرك ، وتنبيهاً عليه وتذكيراً لهم : { رَّبِّ } يا من رباني بكنفك وجوارك { ٱغْفِرْ } واستر أنانيتي عن عين بصيرتي { وَٱرْحَمْ } عليّ بنفي هويتي وإفنائها في هويتك { وَأنتَ } بذاتك وأسمائك وصفاتك { خَيْرُ ٱلرَّاحِمِينَ } [ المؤمنين : 118 ] الذين هم أيضاً من مقتضيات أوصافك وعكوس أسمائك ، والكل بك منك ، ولا راحم سواك ، ولا مربي غيرك . خاتمة السورة عليك أيها المحمدي ، المتحقق بمقام العبودية أن تلازم على هذه الكلمة التي أسمعَك الحق على لسان نبيك وتداومَ عليها ، سيما في خلواتك وأعقاب صلواتك ، عازماً عليها ، سامعاً لها سمعَ قبولٍ ورضا ، حتى يترسخ في قلبك ، وتتمرن فيه إلى حيث نطقت حالك بها بلا ترجمان من لسانك . ومتى تحققتَ وتمكنتَ في هذه المرتبة أتممت مرتبة العبودية ، فلك بعدما كملت عبوديتك الترقي منها بتوفيق الله ، وجذبٍ من جانبه إلى مرتبة الفناء في الله والبقاء ببقائه . وذلك لا يتم إلا باضمحلال هويتك ، وتلاشي بشريتك وماهيتك إلى حيث سقطت عنك تعيناتك رأساً ، وفنيت تشخصاتك جملةً ، وحينئذٍ فزتَ بما فزتَ ، ووصلتَ بما وصلتَ ، وليس وراء الله مرمى ولا منتهى .