Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 1-5)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

هذه { سُورَةٌ } عظيمةُ ، وسِفرُ جليلُ ، وآياتُ كريمةُ { أَنزَلْنَاهَا } من مقام جودنا ، وفضلنا عليك يا أكمل الرسل تأييداً لنبوتك ورسالتك ، وترويجاً لدينك وملكتك { وَفَرَضْنَاهَا } أي : أوجبنا الأحكام التي ذُكرتُ فيها ، وقدّرنا الحدود المقررة في ضمنها ، ألزمناها على من تبعك من المؤمنين تهذيباً لظوهرهم وبواطنهم { وَ } مع ذلك { أَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ } عظام دالة على وحدى ذاتنا ، وكمال قدرتنا على الإنعام والانتقام مع كونها { بَيِّنَاتٍ } واضحات الدلالات { لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ النور : 1 ] وتتعظون ، فتتركون ما يوجب مقتكم وهلاككم ، وتتوجهون إلى ما جُبلتم لأجله . ثم أخذ سبحانه بتطهير المؤمنين عن أفحش الفواحش وأقبح الآثام ، فقال : { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي } أي : حكمهما وحدهما فيما فرضناهما ، وتلوناها عليكم أيها المؤمنين الجَلد ، قدَّم سبحانه الزانية ؛ لأن وقوع الزنا في الأغلب من جانبهن ، ومن غرض نفوسهن ، وزينتهن على الرجال ، وإذا سمعتم أيها الحكام الحدودَ والحُكمَ فيهما { فَٱجْلِدُواْ } بعدما ثبت الزنا بينما ، وهما غير محصنين ؛ إذ حكم المحصن مطلقاً بالإجماع رجمُ كل منهما إن كانا محصنين ، ورجم أحدهما إن كان الآخر غير محصن . والمحصن هو : المسلم الحر العاقل البالغ الذي وقع منه الوقاع بنكاحٍ صحيح { كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } أي : مائة ضربةٍ بسوطٍ مؤلمةٍ مجلدةٍ أشدَّ إيلامٍ بدل ضرباتٍ استلذَّ بها حال الوقاع . وزاد الإمام الشاافعي - رحمه الله - على جلد المائة تغريبَ العام ؛ إذ هو أحوطُ وأَدخلُ في الانزجار ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائة وَتَعْرِيْبُ عَامْ " . { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ } أيها الحكام وقت إجرائكم الحدودَ والأحكامَ { بِهِمَا رَأْفَةٌ } رقةُ ومرحمةُ تضيّعون بها حكمة الحد ؛ إذ لا رأفة { فِي دِينِ ٱللَّهِ } وتفيِيذ أحكامه وحدودِه الموضوعة فيه { إِن كُنتُمْ } أيها لاحكام المقيمون للأحكام والحدود { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } وبجميع ما جاء به من عنده من الأوامر والنواهي ، وجميع الحدود الموضوعة من عنده { وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } الذي فيه تبلى السرائر وتكشف الضمائر ، فلكم أن تقيموا حدود الله على الوجه الذي أُمرت به ؛ لئلا تؤاخذوا في يوم الجزاء . { وَ } بعدما قصدتم أيها الحكام إجراء الحد عليهما { لْيَشْهَدْ } أي : ليحضر وليبصر { عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ } أي : جميعٌ حثيرُ { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 2 ] المعتبرين تفيضيحاً لهما ، وتشهيراً لأمرهما ؛ لينزجرا مما جرى عليهما مَن في قلبه ميلُ إلى أمثا ما أَتَيَا به من الفعلة القبيحة والديدنة الشنيعة . ثم أشار سبحاه إلى قبح مناكحتهما وشناعة ألفتهما ، ومواصلتهما على وجه المبالغة في النهي والكراهة ، فقال : { ٱلزَّانِي } أي : الذي يرغب ، ويميل إلى عورات المسلمين بلا رخصةٍ شرعيةٍ تعدياً عن حدود الله وهتكاً لستره { لاَ يَنكِحُ } إن نَكح { إِلاَّ زَانِيَةً } مثله مناسبةً له ومشاكلةً إياه ؛ إذ الجنسية علة التضام والألفة { أَوْ مُشْرِكَةً } هي أخسُّ وأخبثُ وأشدُّ قبحاً وشناعةً { وَٱلزَّانِيَةُ } الراغبة للأجانب ، المائلةُ إليهم بلا طريقٍ شرعي { لاَ يَنكِحُهَآ } أيضاً { إِلاَّ زَانٍ } كذلك لكمال الملائمة والمشابهة { أَوْ مُشْرِكٌ } هو أخبثُ وأقبحُ { وَحُرِّمَ ذٰلِكَ } الفعلُ القبيح ، والخصلةُ الذميمةُ الشنيعة { عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 3 ] الموقنين المخصلين من أرباب العزائم ، ونهيُ على أهل الرخص منهم نهياً واصلاً إلى حد النفي والحرمة . ثم قال سبحانه : { وَٱلَّذِينَ يَرْمُونَ } بالزنا { ٱلْمُحْصَنَاتِ } الحرائر العاقلات البالغات العفائف من المسلمات ، سواءً كان الرامي أزواجُهن أو غيرهم ، وحكمُ المحصنين أيضاً كذلك ، وإنما خصهن بالذكر ؛ لكثرة ورود الرمي في حقهن ، وكون رميهن سبباً لنزول الآية الكريمة ، { ثُمَّ } بعدما رَموا { لَمْ يَأْتُواْ } لإثباته { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } ذوي عدلٍ وأمانة ومروءةٍ ؛ بحيث لم يكونوا متجسسين عن أحوال الزانيين البغيين ، ولا مستورين منتظرين لاطلاع ما يأتيان به من الفعلة الشنيعة ، بل وقع نظرهم عليها بغتة فرأوا قبح صنيعهما - العياذ بالله - كالميل في المكحلة . فإن أتوا بأربعة شهداء على الوجه المذكور فقد أثبتوا الزنا ، وإن لم يأتوا { فَٱجْلِدُوهُمْ } أيها الحكام ، الراميين القاذفين { ثَمَانِينَ جَلْدَةً } لا كجلدة الزنا بل أخف منها كما هي أقل عدداً . { وَ } بعدما جلدتم أيها الميقيمون لحدود الله { لاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً } أصلآ في حالٍ من الأحوال ودعوىً من الدعاوي { أَبَداً } إلى انقراض حياتهم { وَأُوْلَـٰئِكَ } الأشقياء المردودون { هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [ النور : 4 ] الخارجون عن مقتضى العقل والشرعِ ، المسقطون للمروءة والعدالة ، التاركون طريق الإنصاف والانتصاف ، لا تُرجى نجاتهم من عذاب الله أصلاً . { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ } منهم ورجعوا { مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } الرمي والافتراء { وَأَصْلَحُواْ } ما أفسدوا على نفوسهم بالتوبة والندامة عن ظهر القلب { فَإِنَّ ٱللَّهَ } المطلع لضمائرهم { غَفُورٌ } يعفو عنهم ويستر زلتهم { رَّحِيمٌ } [ النور : 5 ] يرحمهم ، ويقبل توبتهم إن أخلصوا فيها .