Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 217-227)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَ } إن عادوك وعاندوا معك إلى أن قصدوا منك { تَوكَّلْ } في دفعهم وكفاية مؤنتهم { عَلَى ٱلْعَزِيزِ } الغالب لقهر الأعداء ، الغالب على غضبهم وانتقامهم بأنواع البلاء { ٱلرَّحِيمِ } [ الشعراء : 217 ] على الأولياء ، ينصرهم على أعدائهم ، ويدفع عنهم شرورهم . وكيف لا يرحمك يا أكمل الرسل ، ولا يكفيك مؤونة أعدائك { ٱلَّذِي يَرَاكَ } أي : القيوم القادر الذي يشاهد { حِينَ تَقُومُ } [ الشعراء : 218 ] من منامك خلال الليل طلباً لمرضاته ، ورفعاً لحاجاتك نحوه ؟ ! . { وَ } يشاهد أيضاً { تَقَلُّبَكَ } وترددك جوف الليل في تفقد أحوال المؤمنين { فِي ٱلسَّاجِدِينَ } [ الشعراء : 219 ] المتذللين نحو الحق ، واضعين جباههم على تراب المذلة والانكسار شوقاً إليه وتحنناً نحوه من إفراط المودة ، واشتعال نار العشق والمحبة الإلهية المطفئة لنيران الأهوية الفاسدة والآراء الباطلة . وكيف لا يتذللون إليه ولا يتحننون نحوه { إِنَّهُ } بذاته { هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لمناجاتهم وعرض حاجاتهم { ٱلْعَلِيمُ } [ الشعراء : 220 ] بمقاصدهم وأغراضهم ، وخلوص نياتهم وإخلاصهم في أعمالهم . وبعدما ردَّ سبحانه قول من قال : إن القرآن منزل من قبل الشياطين لا من الملائكة وأثبت أن إنزاله منه سبحانه ، وإيصاله من الروح الأمين على الرسلو الأمين ؛ إذ المناسبة بينهما مرعية ، والمشاكلة مثبتة ، أراد أن يشير سبحانه إلى أن تنزيل الشياطين وتسويلاتهم إنما هو لأوليائهم الذين كملت نسبتهم إليهم ، وصحت مناسبتهم معهم . فقال : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ } وأخبركم أيها المسرفون المترددون في أمر القرآن وإعجازه وإنزاله من قبل الحق القادحون فيه بنسبته إلى تنزيل الشيطان ، أو إلى الشعر الذي هو من جملة وساوسه وتخيلاته ، مع أنه مشتمل على معارف وحقائق ، ورموزات وشهودات لا يسع الإتيان بها والتعبير عنها إلا لمن هو علام الغيوب ، مطلع على سرائر أرباب الكشف والشهود ، أُخبركم { عَلَىٰ مَن تَنَزَّلُ ٱلشَّيَاطِينُ } [ الشعراء : 221 ] للإضلال والوسوسة ، والتحريف عن طريق الحق ، والتغرير بالأباطيل ؟ . { تَنَزَّلُ عَلَىٰ كُلِّ أَفَّاكٍ } مبالغ في الإفك والافتراء { أَثِيمٍ } [ الشعراء : 222 ] مغمور في الإثم والعصيان ، وأنواع الفسوق والطغيان . ليتحقق مناسبته مع الشياطين الذين { يُلْقُونَ ٱلسَّمْعَ } للملائكة ، ويصغون منهم بعض المغيبات لا على وجهها ؛ غرضهم من الإصغاء الإفساد والرد لا الإصلاح والقبول { وَ } لذلك { أَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } [ الشعراء : 223 ] فيما يسمعون ويلقون ؛ إذ هم يحرفونه ويزيفون ترويجاً لما هم عليه من الفساد والإفساد ، وتغريراً لأوليائهم بأنواع التغريرات . { وَ } من جملة أولياء الشياطين المنتسبون إليهم بالنسبة الكاملة الكاذبة : { ٱلشُّعَرَآءُ } المذبذبون بين الأنام بأكاذيب الكلام وأباطيله ؛ لذلك { يَتَّبِعُهُمُ ٱلْغَاوُونَ } [ الشعراء : 224 ] الضالون من جنود الشياطين ، المستتبعون لهم ؛ لترويج أباطيلهم الزائفة . { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ } ومن تابعهم من الغواة { فِي كُلِّ وَادٍ } من أودية الضلالة والطغيان { يَهِيمُونَ } [ الشعراء : 225 ] يترددون حيارى تائهين بلا ثبات ولا قرار ، مترددين في معاشهم ومعاهدهم . { وَأَنَّهُمْ } من غاية غفلتهم وسكرتهم في أمور معاشهم { يَقُولُونَ } بأفواههم ، ويخبرون بألسنتهم تلقفاً { مَا لاَ يَفْعَلُونَ } [ الشعراء : 226 ] من الأخلاق و الحكم والمواعظ ، والرموز والإشارات التي تصدر عنهم هفوة ، وهم لا يمتثلون بها أصلاً . { إِلاَّ } الشعراء { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بتوحيد الله ، واتصفوا بالحكمة المعتدلة المودعة في قلوبهم ، الظاهر أثرها من ألسنتهم ، ومضوا على مقتضى الاعتدال المعنوي الذي جبلهم الحق عليه بلا تلعثم منهم ، وتزلزل عن مقتضى فطرتهم { وَ } مع ذلك { عَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } من الأعمال المصلحة لمفاسدهم ، المهذبة لأخلاقهم وأطوارهم { وَذَكَرُواْ ٱللَّهَ } المستوي على صراط العدالة والاستقامة في أشعارهم وقصائدهم { كَثِيراً } في عموم أوقاتهم وحالاتهم ؛ بل أكثر أشعارهم إنما هي لإثبات توحيد الحق ومعارفه وحقائقه ورموز أرباب الكشف والعرفان ، والتذكيرات المتعلقة بترك المألوفات وقطع التعلقات المنافية لصفاء مشرب التوحيد . وبعض أشعارهم متعلق بردع أهل الأهواء والآراء ، وهتك محارمهم وأعراضهم وتعداد مقابحهم وزذائلهم { وَ } ذلك بأنهم { ٱنتَصَرُواْ } بأشعارهم هذه { مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } من أيدي الجهلة ، وألسنة الكفرة المتعنتين المستكبرين على أرباب المحبة والولاء من المنقطعين نحو الحق ، السالكين في سبيل توحيده . { وَ } بالجملة : { سَيَعْلَمْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ } على أهل الحق ، وآذنوهم بالسنان واللسان وأنواع القدح والطغيان ، ونسبوهم إلى الإلحاد والفساد ، ورموهم بأنواع الفسوق والفساد مع أنهم على صرافة التوحيد متمكنون ، ومن أمارات الكثرة والتقليد متنزهون ، وسيعلم أولئك الرامون المفرطون المسرفون { أَيَّ مُنقَلَبٍ } أي : مرجع ومآب { يَنقَلِبُونَ } [ الشعراء : 227 ] ويرجعون ، أيدخلون إلى حضرة النيران والخذلان منكوسين ، أم إلى روضة الرضا مسرورين ؟ . ألاَ أن أولياء الله { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ البقرة : 274 ] . خاتمة السورة عليك أيها السالك المراقب لاعتدال الأطوار والأخلاق والأعمال ، وجميع الشئون والأحوال المتعلقة بنشأتي الدنيا والعقبى ، أن تراجع ذوقك ووجدانك في جميع ما جرى عليك من الأحوال ، وتتأمل فيها حق التأمل إلى أن تطلع بمبدئه ومنشئه ، ثمَّ تتفكر في صدوره ، هل هو على مقتضى الاعتدال والقسط الإلهي ، أم على مقتضى الهوى الغالب الذي هو من جنود الأمَّارة المستمدة عن إغواء الشيطان وإغرائه ؟ . فإنه وجدته على مقتضى القسط الإلهي والعدل الجبلي ، فطوبى لك ، وإن وجدته القالعة لعرق الأماني ، والمرادات المتعلقة بمستلذات الدنيا الفانية ، وتواظب على أشق الطاعات وأتعب العبادات من صيام الأيم ، ومشي الأقدام ، وانقطاع صحبة الأنام ، والاعتزال بين الجبال والآجام ، والعكوف في الخلوات ، والاشتغال بالميل والصلوات المقربة نحو الحق ؛ حتى تعتدل أوصافك وأخلاقك ، وتستقيم أفعالك وأحوالك ، فحيئذٍ انكشف لك باب التوحيد ، وانغلق عليك مداخل الرياء والسمعة والعُجب ، وأنواع الكدورات اللاحقة من الخلطة والمؤانسة مع الناس ، والمصاحبة معهم المكدرة لصفاء شرب التوحيد . واعلم يا أخي أن أرباب المحبة الكاملة والولاء التام ، هم الذين يبذلون مهجهم في سلوك سبيل الفناء بلا التفات منهم إلى أحد من الناس ، لا خيراً ولا شراً ، ولا نفعاً ولا ضراً ، بل هم من كمال حيرتهم واستغراقهم في مطالعة جمال الله وجلاله لا يلتفتون إلى نفوسهم ، فكيف إلى غيرهم ؟ ! . ولا يتيسر لك هذا إلا بتوفيق إلهي وجذب من جانبه ، وبمتابعة حبيبه صلى الله عليه وسلم في أطواره وأخلاقه وجميع سننه وآثاره ، وبملازمة خدمة مرشد كامل ، منبه نبيه ، يوقظك من منام غفلتك ، ويرشدك إلى منتهى مقصدك وقبلتك . ربِّ هب لي من لدنك حكمةً وحكماً ، وألحقني بالصالحين . تم الجزاء الثاني من تفسير القرآن الشريف لحضرة سلطان الأولياء على الإطلاق سيدي وسندي السيد الشيخ أبي محمد عبد القادر الجيلاني الشهير الذي ارتفع قدره وسما ذكره ، رضي الله عنه وأرضاه .