Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 1-6)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ الۤـمۤ } [ العنكبوت : 1 ] أيها الإنسان الاكمل الأعلم ، اللائق لفيضان لوامع أنوار الوجود ولوائح آثار الفضل والجود ، المؤيد الملازم لاستكشاف مكنونات ما في مظاهر المكونات من المعظمات آثار الإلوهية ، ومكرمات أنواع الربوبية اللامعة اللائحة على نواصي عموم ما ظهر وبطن غيباً وشهادة على التعاقب والتوالي بلا انقطاع وانصرام ، أزلاً وأبداً ، وبلا ذهول وغفلة ، وفتور وفترة ، بحيث لا يعزب عن حيطة حضرة علمه ذرة من ذرائر ما ظهر ولاح دون إشراق شمس وجهه الكريم . { أَحَسِبَ } وظن { ٱلنَّاسُ } المنهمكون في الغفلة والنيسان { أَن يُتْرَكُوۤاْ } ويُهملوا على ما هم عليه من عدم مطابقة قلوبهم لأفواههم ، وأعمالهم بنياتهم ، وأفعالهم بحالاتهم بمجرد { أَن يَقُولُوۤاْ آمَنَّا } بلا موافقة من قلوبهم ، مع أن الإيمان في الأصل هو الإذعان والقبول والإخلاص بالقلب ، والانقياد والتسليم بالجوارح والآلات من لوازمه ومتمماته { وَهُمْ } بمجرد ما يلقلق به لسانهم ، ويظهره بيانهم طنوا أنهم { لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] ولا يمتحنون ، بلى والله لنبولنهم ونختبرهم بشيءٍ من الخوف والجوع ، ونقص من الأمال والأنفس والثمرات ، حتى ظهر إخلاصهم في جيع ما آمنوا ، فترتب خلاصهم حنيئذٍ على إخلاصهم . { وَ } ليس افتتاننا واختبارنا إياهم ببدع منا ، بل { لَقَدْ فَتَنَّا } وامتحنا { ٱلَّذِينَ } مضوا { مِن قَبْلِهِمْ } من الأمم السالفة ، مع أنهم يدعون الإيمان ، ويتفوهون ويتقوهون به أمثالهم ، ومع ذلك لم نتركهم بلا ابتلاء واختبار ، وليس اختبارهم وامتحانهم إلا لإظهار حجتا البالغة عليهم ، وإلاَّ { فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ } المطلع على ضمائر عباده وسرائرهم { ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ } منهم ، وأخلصوا في إيمانهم { وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ } [ العنكبوت : 3 ] أيضاً منهم . وهم الذين لا يخلصون مع الله في حالٍ من الأحوال ، وعملٍ من الأعمال ، ولا يسمعون أوامر الله ونواهيه من ألسنة رسله سمع قبولٍ ورضا ، وإنما أرادوا بإيمانهم الظاهر الذي أتوا به على سبيل الكراهة إسقاط لوازم الكفر من حقن الدماء ، وسلب الذراري ونهب الأموال ، وإلا فهم ليسوا ممن يذعنون بدلائل التوحيد وبراهين الإيمان عن صميم قلوبهم ، ظناً أنَّا غافلون عن بواطنهم ونياتهم . { أَمْ حَسِبَ } أي : بل ظن المسرفون { ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ } مصرين عليها ، مبالغين في إتيانها { أَن يَسْبِقُونَا } ويفوتوا عنا جزاء ما عملوا ، ويسقطوا عن حسابنا ما أتوا به من المعاصي ، بل نحن مطلعون عليها حين كانوا في استعداداتهم قبل ظهورهم في فضاء الوجود ، فكيف حين وجودهم وظهورهم ، وصدور الآثام عنهم بالفعل ؟ ! { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ العنكبوت : 4 ] علينا حكمهم وهذا ونسبتهم هذه - أعاذنا الله وعموم عباده عن أمثال هذه الظنون الفاسدة بالنسبة إليه سبحانه - كل ذلك عن جهلهم بالله ويمقتضى عزه وعلوه ، وإنكارهم بلقائه والوقوف بين يديهز إذ { مَن كَانَ يَرْجُواْ } ويأمل { لِقَآءَ ٱللَّهِ } المتجلي على الأكوان حسب أسمائه العلية وصفاته السنية ، ويترصد أن ينكشف له ما هو الموعود من لدنه سبحانه من الدرجات العلية والمقامات السنية حال كونه متأدباً بالآداب المنزلة من عنده بواسطة أنبيائه ورسله ، متحملاً على متاعب التكاليف ومشاق الطاعات المفروضة المشروعة له ، مترقباً للانكشاف والشهود ، راجياً لقياه بلا يأس وقنوط ، فاز بمبتغاه على الوجه الذي وُعد بعدما وفقه الحق وجذبه إلى نفسه { فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ } الذي وعده لعباده أن يشرفهم بشرف لقائه { لآتٍ } بلا شك وارتياب { وَ } كيف لا يشرفهم بعدما وعدهم ؛ إذ { هُوَ ٱلسَّمِيعُ } لمناجاتهم { ٱلْعَلِيمُ } [ العنكبوت : 5 ] بحاجاتهم التي هي الفوز بشرف اللقاء ، والوقوف عند سدرة المنتهى ، والتدلي إلى مقام دنا فتدلى { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ } [ النجم : 9 ] . { وَمَن جَاهَدَ } واجتهد في الوصول إلى ما ذكر من المقام المحمود ، والموعود الذي هو مرتبة الكشف والشهود { فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } إذ نفعه عائد إليه ، وهو واصل إلى منتهى مطلوبه بعدما كان طالباً { إِنَّ ٱللَّهَ } المنزه عن الطلب والاستكمال ، المبرأ عن الترقب والانتظار { لَغَنِيٌّ } في ذاته { عَنِ ٱلْعَالَمِينَ } [ العنكبوت : 6 ] وطاعاتهم وعباداتهم ورجوعهم إليه ، وتوجههم نحوه .