Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 65-69)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

والعجب منهم ومن حالهم كل العجب أنهم مع شركهم وإصرارهم على الكفر ، وعدم تأثرهم بالزواجر والروادع الواردة من قِبَل الحق ، ظهور المعجزات المزعجة إلى الإيمان { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ } متضرعين نحوه { مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } أي : كائنين كالمؤمنين المطيعين ، الخالصين إطاعتهم وانقيادهم لله بلا شوب الشرك وشين الكفر { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ } من كمال فضلنا وجودنا إياهم { إِلَى ٱلْبَرِّ } وأخلصناهم من المهلكة آمنين { إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] يعني : هم ما جاءوا على الفور بُعيْد ما خلصوا من التهلكة إلى الشرك والطغيان وأنواع العصيان والكفران . قل لهم يا أكمل الرسل نيابةً عنا آمراً لهم على سبيل التهديد : { لِيَكْفُرُواْ } أولئك الكافرون { بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } من النعم العظام ، سيما نعمة الإنجاء من مضيق البحر { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } أولئك المتمتعون بما عندهم من الحطام الدنيوية ، وما هم عليه من الإصرار على الكفر الضلال { فَسَوْفَ يَعلَمُونَ } [ العنكبوت : 66 ] ما يترتب على كفرانهم وتمتعهم وشركهم وضلالهم . { أَ } ينكرون نعمنا وإنعامنا إياهم أولئك الكافرون المبطلون { وَلَمْ يَرَوْاْ } ولم يعلموا أهل مكة { أَنَّا } من مقام جودنا وفضلنا إياهم { جَعَلْنَا } بلدهم ؛ يعني : مكة { حَرَماً } يعني : ذا حرمة عظيمة يأوي إليها الناس من جميع أقطار الأرض من لك مرمى سحيق وفج عميق { آمِناً } ذا أمن أهله من النهب والسبي وأنواع الأذى { وَيُتَخَطَّفُ } نهباً وسبياً ، وهم آمنون فيها ، مصونون عن المؤذيات كلها ، وهم مع ذلك يكفرون نعمنا ويشركون بنا غيرنا { أَ } أي : يختلس ويؤخذ { ٱلنَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ } ما تستحيون من الله أيها المبطلون ، وما تخافون من بطشه أيها المفسدون المسرفون ؟ ! { فَبِٱلْبَاطِلِ } العاطل الزاهق الزائل ؛ يعني : الأصنام والأوثان { يُؤْمِنُونَ } أي : يطيعون ويعبدون ، مع أنهم لا يقدرون على جلب نفع ودفع ضر { وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ } القادر المقتدر القوي على البطش والانتقام { يَكْفُرُونَ } [ العنكبوت : 67 ] فستعلمون أيها الجاهلون الضالون أيّ منقلب تنقلبون . ثمَّ قال سبحانه على سبيل التهديد والوعيد الشديد : { وَمَنْ أَظْلَمُ } وأشد عدواناً على الله ، وخروجاً عن مقتضى حدوده ، وعلى نفسه بالعرض على بطشه وعذابه { مِمَّنْ ٱفْتَرَىٰ } وانتسب إلى الله مراءً وافتراءً { عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } عظيماً بأن يُشرك معه غيره ، مع أنه ليس في الوجود سواه { أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ } المطابق للواقع ، الثابت النازل من عنده سبحانه ؛ يعني : الرسول { لَمَّا جَآءَهُ } كذبه فجأة بلا تأمل وتدبر عناداً ومكابرةً { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } [ العنكبوت : 68 ] يعني : أيزعمون أولئك المسرعون في التكذيب ، المجترئون على الإنكار أنهم لا يدخلون جهنم الطرد وجحيم الخذلان ، خالدين مخلدين بسبب هذا الجرم العظيم والافتراء البالغ نهاية البغي والفساد على الله وعلى كتابه ورسوله ؟ ! بلى هم المستوجبون المقصودون على الخلود فيها أبداً مهانين صاغرين . ثمَّ قال سبحانه على مقتضى سنته المستمرة من تعقيب الوعيد بالوعد : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا } يعني : المؤمنين الموقنين الذين حازوا كلا مرتبتي العين و الحق على مقتضى استعداداتهم الفطرية ، ثمَّ اجتهدوا ببذل وسعهم بأن يفنوا فينا ، ويبقوا ببقائنا ، باذلين مهجهم في سبيلنا ، تاركين أنانيتهم وأعيانهم الباطلة في هويتنا وعيننا الحق { لَنَهْدِيَنَّهُمْ } ونوفقنَّ عليهم { سُبُلَنَا } ولنزيدنَّ هديهم ورشدهم إلينا جذباً منا إياهم ، وعنايةً لهم ، وأحساناً معهم { وَ } كيف لا يجذبهم ولا يعتني بشأنهم ، ولا يزيد برشدهم وتوفيقهم ؟ ! { إِنَّ ٱللَّهَ } المتجلي لخلَّص عباده بمقتضى أسمائه وصفاته { لَمَعَ ٱلْمُحْسِنِينَ } [ العنكبوت : 69 ] منهم ، وهم الذين يحسنون الأدب مع الله ، ويجتهدون في إفناء ذواتهم في ذاته بعدما تحققوا بمقام الكشف والشهود ، وتيقنوا ألاَّ موجود سواه ، ولا إله ي الوجود إلا هو ، اجتهدوا حينئذٍ أن يحكوا أضلال هوياتهم الباطلة ، وعكوس تعيناتهم الهالكة العاطلة عن دفتر الوجود مطلقاً ؛ لئلا يبقى لهم عين ولا اسم ولا رسم . وبعدما طرحوا بتوفيق الله وجذب من جانبه ما أطرحوا من أباطيل التعينات ولوازم الهويات والأنانيات ، وعموم الاعتبارات عن دفتر الوجود وفضاء الشهود ، بحيث لم يبق لهم عين ولا أثر ، بل لا معنى للمعية والمصاحبة والمقارنة ، ولا تشوشك منطوقات الألفاظ والعبارات إن كنت من أهل الرموز والإشارات ، هو يقول الحق ، وهو يهدي السبيل ، وحسبنا الله ونعم الوكيل . خاتمة السورة . عليكم أيها المجتهد المتوجه نحو الحق ، المتعطش بزلال توحيده ، المعرض عن الباطل وما يترتب عليه من غوائل الشيطان ووساوسه أن يجتهد أولاً في استخلاص نفسك البشرية عن أمانيها مطلقاً ، سيما أنية أمارتك المائلة بأنواع الفجور ، المبغية على الله بأصناف الكفر والفسوق ، والغيبة التي لا تفهم مقتضيات الوحدة وإشارات أرباب التوحيد أصلاً ، العرية عن مبدأ المعارف والحقائق والأسرار والمكاشفات ، الواقعة في طريقه رأساً ، فلك أن تروضها بمتاعب الرياضات ومشاق التكليفات إلى أن تجعلها مطمئنة راضية بما جرى عليها من القضاء . ثمَّ بعدما صارت نفسك مطمئنة راضية انبعث شوقك ، واقتضى ذوقك مع جذب من جانب الحق إلى أن تجعلها فانية في هوية الله ، مضمحلة في ذاته ، متلاشية في أوصافه وأسمائه ، بحيث لا يبقى لها عين ولا أثر ، فحيئنذٍ صرت في زمرة المحسنين المهديين ، المرضيين الذين هم من الله في جميع حالاتهم لا بطريق المصاحبة والمقارنة ، ولا بطريق الحلول والاتحاد على ما يخيلك الألفاظ والعبادات ، بل بطريق الفناء فيه والرجوع إليه ، والبقاء ببقائه . جعلنا الله ممن اجتهد في طريق التوحيد ، وجاهد نفسه في مسلك الفناء حتى بذلها في سبيل الله وأفناها في هويته بمنَّه وسعة جوده .