Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 61-64)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثمَّ قال سبحانه قولاً على سبيل الإلزام والتبكيت : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ } يا أكمل الرسل ؛ أي : أهل مكة مع كفرهم وشركهم : { مَّنْ خَلَقَ } وأظهر { ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } من كتم العدم ؟ { وَ } منْ { سَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ } دائبين ؟ { لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } المظهر للكائنات ، المستقل في إيجادها ، والمتصرف فيها حسب إرادته ومشيئته ، وبعدما أقروا بتوحيد الحق وانتهاء مراتب الممكنات إليه { فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } [ العنكبوت : 61 ] ويُصرفون عن توحيده والإيمان ب ، والامتثال بأوامره ونواهيه الجارية على ألسنة رسله وكتبه ؟ ! . وإن صرفهم عن الإيمان فاقة أهل الإيمان وفقر الموحدين ، قل لهم نيابة عنا : { ٱللَّهُ } المطلع لاستعدادات عباده وقابلياتهم { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } على مقتضى استعداده { وَيَقْدِرُ لَهُ } ويقبض عنه حسب تعلق إرادته { إِنَّ ٱللَّهَ } المتقن في أفعاله { بِكُلِّ شَيْءٍ } صدر عنه إرادة واختياراً { عَلِيمٌ } [ العنكبوت : 62 ] لا يعزب عن حيطة علمه شيء من لوازمه ومتمماته ، وجميع مقتضياته . { وَ } يا أكمل الرسل : { مَّن نَّزَّلَ مِنَ } جانب { ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ } أي : بواسطة الماء على مقتضى عادته المستمرة من تعقيب الأسباب بالمسببات { ٱلأَرْضَ } الجامدة اليابسة { مِن بَعْدِ مَوْتِهَا } أي : جمودها ويبسها ؟ طبعاً { لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } طوعاً ، القادر المقتدر على الإحياء والإماتة ، ومع اعترافهم بوحدة الله وانتساب معظم الأشياء إليه يشركون له غيره عناداً ومكابرةً { قُلِ } أيضاً { لَئِن سَأَلْتَهُمْ } يا أكمل الرسل بلسان الجمع ، بعدما عصمك الحق عن الشرك وأنواع الجهالات بإفاضة العقل المفاض ، وهداك إلى توحيده بالرشد الكامل المكمل المميز لك أكمل التمييز ، حامداً لله شاكراً لنعمه ، سيما نعمة العصمة عن الشرك والضلال : { ٱلْحَمْدُ } والثناء الصادر من ألسنة ذرائر الكائنات المتذكرة لمبدئها ومنشئها طوعاً وطبعاً ، ثابتة حاصلة { لِلَّهِ } راجعة إليه سبحانه أصالةً ؛ إذ لا مُظهر لهم سواه ، ولا موجد في الوجود إلا هو . { بَلْ أَكْثَرُهُمْ } من نهاية غفلتهم وضلالهم عن الله { لاَ يَعْقِلُونَ } [ العنكبوت : 63 ] ولا يفهمون وحدة الحق واستقلاله في الآثار والتصرفات الواقعة في الأنفس والآفاق ، ولا يستعملون عقولهم المفاضة لهم للتدبر والتأمل في هذا المطلب العزيز حتى يستبعدوا الفيضان نزول الوحدة بطريق الكشف والشهود ، فخلصوا عن التردد في هاوية الجهالات ، وأودية الخيالات والضلالات ، وما يعوقهم ويمنعنم عن الوصول إلى هذا المطلب العلي ، والمقصد السني إلا المزخرفات الدنيَّة الدنيوية ، الملهية للنفوس البشرية عن اللذات الروحانية ، مع أنها ما هي في أنفاسها إلا أوهام وخيالات باطلة ، فكيف ما يترتب عليها من اللذات الوهمية والشهوات البهيمية ؟ ! . كما قال سبحانه مشيراً إلى فناء زخرفة الدنيا وعدم قرارها وثباتها ، وبقاء النشأة الأخرى وما يترتب عليها من اللذات الروحانية ، والدرجات العليَّة النورانية المتفاوتة علماً وعيناً وحقاً على تفاوت طبقات أرباب الكشف والشهود ، ومقتضيات استعداداتهم الثابتة في لوح القضاء وحضرة العلم الإلهي : { وَمَا هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَآ } التي لا قرار لها ولا مدار حقيقة ، بل لا أصل لها أصلاً سوى سراب انعكس من شمس الذات ، وأمواج حدثت في بحر الجود { إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ } يعني : كما أن السراب يُلهي ويخدع العطشان بالتردد والتبختر نحو على اعتقاد أنه ماء ، فيتعب نفسه ويزيد عطشه ، بل يهلكها ، كذلك الحياة الدنيوية ومزخرفاتها الفانية ، ولذاتها الزائلة الذاهبة الإمكانية تُتعب صاحبها طول عمره ، ولا ترويه ، ثم تميته بأنواع الحسرة والضجرة { وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } وما يترتب عليها من المكاشفات والمشاهدات اللدنية ، وما يترتب عليها من أنواع الفتوحات والكرامات الفائضة لأرباب التوحيد { لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ } أي : هي مقصورة على الحياة الأزلية الأبدية التي لا يطرأ عليها زوال ، ولا يعقبها فناء ، ولا يعرض للذاتها انصرام وانقضاء { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 64 ] يوقنون بها وبما فيها من الكرامات لم يؤثروا الدنيا الدنيَّة وحياتها الفانية المستعارة عليها ، ولم يختاروا اللذات الوهمية البهيمية على لذاتها الأزلية الأبدية ، ويجهلهم وضلالهم اختاروا الفاني على الباقي ، والزائل على القار ، والسراب المهلك على الفرات المحيي .