Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 1-7)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ الۤـمۤ } [ الروم : 1 ] أيها الإنسان الأفضل الأكمل اللبيب ، اللائق الملازم المداوم لاتسكشاف غوامض أسرار الوجود ، ورقائق دقائق آثار الكرم والجود ، الفائضة من الخلاق الودود على خواص مظاهر الأكوان المحبوسين في مضيق الإمكان ؛ ليوصلهم إلى فناء الوجوب وصفاء الكشف والشهود ، مخلصين عن جميع الأوهام والخيالات المستتبعة لأنواع الضلالات والجهالات . { غُلِبَتِ ٱلرُّومُ } [ الروم : 2 ] أي : صاروا مغلوبين من عسكر الفرس . { فِيۤ أَدْنَى ٱلأَرْضِ } وأقربها من أرض العرب وأرض الروم ، وهي أذرعات الشام أو الأردن أو فلسطين - على اختلاف الروايات من أصحاب التواريخ - { وَ } ولا تغتموا أيها المؤمنون من مغلوبية أهل الكتاب وضعفهم ؛ إذ { هُم } أي : الروم { مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ } ومغلوبيتهم من الفرس { سَيَغْلِبُونَ } [ الروم : 3 ] ويصيرون غالبين عليهم ، آخذين انتقامهم عنهم على أبلغ وجه وأشده لأبعد مدة مديدة ، وأمد بعيد . بل { فِي بِضْعِ سِنِينَ } والبضع عند العرب من الثلاث إلى التسع . ورُوي أن فارس غزوا الروم فتلاحقا بأذرعات الشام ، وهي أقرب أرض الروم من الفرس والعرب أيضاً ، فلما اقتحما غلب الفرس على الروم ، فوصل الخبر إلى مكة فأخذ المشركون في فرح عظيم وسرور مفرط ، شامتين بالمسلمين ، قائلين إياهم : أنتم والنصارى أهل الكتاب ، ونحن وفارس أميون لا كتاب لنا ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ، فنحن لنظهرنَّ أيضاً عليكم مثلهم عن قريب ، فنزلت الآية فقرأها صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه ، فخرج عليهم ، فقال لهم : لا يقر الله أعينكم أيها المشركون المسرفون ، فوالله ليظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين ، فقال له أُبي بن خلف : كذبت ، اجعل بننا أجلاً أناحبك وأراهنك فناحبه أبو بكر رضي الله عنه على عشر قلائص من كل واحد منهم ، وجعل الأجل ثلاث سنين ، فأخبر أبو بكر رضي الله عنه ما جرى بينهما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال صلى اله عليه وسلم : " البضع ما بين الثلاث إلى التسع " . فرجع رضي الله عنه إلى أُبي فزايده الجعل والمدة أيضاً ، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنينن ، ومات أُبي من طعن طعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية أو بدر ، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه الخطر والرهن من ورثة أُبي ، وجاء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم : " تصدق به " فتصدق ، فهذا قبل التحريم القمار ، فلا يصح الاستدلال به على جواز العقود الفاسدة . وهذه الآية من دلائل النبوة الرسالة ؛ لكونها إخباراً عن الغيب بوحي الله وإلهامه ؛ إذ { لِلَّهِ } وفي قبضة قدرته واختياره { ٱلأَمْرُ } كله غيباً وشهادةً ، دنيا وعقبى { مِن قَبْلُ } أزلاً { وَمِن بَعْدُ } أبداً ، لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ، يفعل الله على مقتضى إرادته واختياره ما يشاء ، ويحكم حسب حكمته ما يريد { وَيَوْمَئِذٍ } أي : حين غلب الروم على الفرس في رسن السنة التاسعة ؛ إنجازاً لما وعد به سبحاه المؤمنين { يَفْرَحُ ٱلْمُؤْمِنُونَ } [ الروم : 4 ] مثلما فرح المشركون في الوقعة السابقة . وفرح المؤمنين إنما هو { بِنَصْرِ ٱللَّهِ } وتأييده أهل الكتاب والملة ، وتقوية أهل دينه وكتابه النازل من عنده ، وتغليبهم على أهل الأهواءوالآراء الباطلة ، لا بمجرد الغيرة والحمية الجاهلية والعصبية ، كما هو ديدنه أهل الزيغ والضلال ، وإلا { يَنصُرُ } سبحانه { مَن يَشَآءُ } من عباده على مقتضى مراده ، سواء كان من أهل الهداية والضلال ، أو السعادة والشقاوة ؛ إذ لا يُسأل عما يفعل { وَ } كيف يُسأل عن فعله سبحانه ، مع أنه { هُوَ ٱلْعَزِيزُ } المنيع ساحة عز حضوره عن أن يُسأل عن كيفية أفعاله ، الغالب المقتدر بالقدرة الكاملة على جميع مراداته { ٱلرَّحِيمُ } [ الروم : 5 ] لعباده ، يتفضل عليهم بمقتضى سعة رحمته تفضلاً وإحساناً ؟ ! . وما ذلك النصر والتأييد { وَعْدَ ٱللَّهِ } وعهده ، وعده مع المؤمنين حين اشتد عليهم الحزن وهجم الهموم وقت مغلوبية الروم غيرةً منهم على دين الله وأهله ، ومن سنته سبحانه أنه { لاَ يُخْلِفُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } الذي وعده مع خلَّص عباده { وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ } المجبولين على الغفلة والنسيان { لاَ يَعْلَمُونَ } [ الروم : 6 ] وعده ، ولا يؤمنون ويصدقون بإنجازه الوعد ، وعدم خلفه في الموعود . بل ما { يَعْلَمُونَ } إلاَّ { ظَاهِراً مِّنَ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } يعني : لا يترقى علمهم عن المحسوسات الظاهرة مثل الحيوانات العجم ، بل هم أسوأ حالاً منهم ؛ إذ هم مجبولون على التأمل والتدبر ، والتفطن بما هو المقصود من ظهورها ، والتفكر في حكمة إظهارها على هذا النمط البديع والنظم العجيب ، وكيفية ارتباطها بالأسماء الإلهية والأوصاف الذاتية وانعكاسها منها { وَ } بالجملة : { هُمْ عَنِ } النشأة { ٱلآخِرَةِ } المعدة لكشف السرائر ، ورفع الحجب والسدل ، وجميع الأغطية والأستار المانعة عن ظهور الحق ، وانكشاف لقائه بلا سترة وحجاب { هُمْ غَافِلُونَ } [ الروم : 7 ] غفلة مؤبدة تامة ، بحيث لا يرجى منهم الإطلاع أصلاً ؛ لكثافة حجبهم ، وغلظ أغطيتهم وأغشيتهم ؛ لذلك لم يتدرجوا من عالم الكون والفساد ومضيق الإمكان ، وما يترتب عليه من اللذات الوهمية إلى عالم الغيب وفضاء الوجوبن وما يترتب عليها من الكشف الشهود ، وأنواع المعارف والحقائق الفائضة على مقتضى الجود الإلهي .