Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 31, Ayat: 23-28)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَمَن كَفَرَ } وأعرض عن التشبث بحبل توفيقه ، وانصرف عن الاستمساك بدلائل توحيده وشواهد استقلاله في آثاره { فَلاَ يَحْزُنكَ } يا أكمل الرسل { كُفْرُهُ } وإعراضه عنا ، وعن مقتضى ألوهيتنا وربوبيتنا ؛ إذ { إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } ومصيرهم ، كما أن منا مبدأهم ومشأهم { فَنُنَبِّئُهُم } ونخبرهم ، ونفصل عليهم { بِمَا عَمِلُوۤاْ } بعدما رجعوا إلينا ، ونجازيهم على مقتضاها بلا فوت شيء مما صدر عنهم ، وكيف لا يجازون بأعمالهم ، ولا يحاسبون عليها { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع على جميع ما ظهر وبطن من ذرائر الأكوان { عَلِيمٌ } محيط حضرة علمه { بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } [ لقمان : 23 ] وخفيات الأمور وإن دق ولطف ، ولا يعزب عنه حيطة علمه شيء ؟ ! . قل لهم يا أكمل الرسل نيابةً عنا : لا يغتروا بإمهالنا وتمتعينا إياهم ، وعدم التفاتنا نحوهم ، وعدم انتقامنا عنهم ؛ إذ { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً } أي : زماناً قليلاً تسجيلاً للعذاب عليهم ، وتغريراً { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ } بعد بطشنا إياهم { إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] لا عذاب أغلظ منه وأشد ؛ لغلظ غشاوتهم وقساوتهم . { وَ } كيف لا نأخذ أولئك المكابرين المعاندين { لَئِن سَأَلْتَهُمْ } سؤال اختبار وإلزام : { مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } وأوجد العلويات ، وما فيها من الكواكب والبروج وأنواع الفجاج { وَٱلأَرْضَ } ومن عليها ، وما عليها مما لا يُعد ولا يُحصى ؟ { لَيَقُولُنَّ } في الجواب مضطرين حاصرين : { ٱللَّهُ } إذ لا يسع لهم إسناد خلقهما وإيجادهما إلى غيره سبحانه ؛ لظهور الدلائل والشواهد المانعة من الاستناد إلى غيره سبحانه { قُلِ } يا أكمل الرسل بعدما اعترفوا بأن الموجد للعلويات والسلفيات هو الله سبحانه بالأصالة والاستقلال : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ } حيث اعترفتم بتوحيد الله مع أنكم اعتقدتم خلافه ، فيلزمهم لقولهم هذا التوحيد الحق { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ لقمان : 25 ] لزومه ، ولا يفهمون استلزامه ؛ لذلك ينكرون له ، ويشركون معه غيره عناداً واستكباراً ، تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً . وكيف لا يعلمون ويفهمون مع أنه { لِلَّهِ } الواحد الأحد ، المستحق للألوهية والربوبية ، وفي قبضة قدرته وتحت تصرفه جميع { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : العلويات والسلفيات ، والممتزجات سواء علموا وحدته واستقلاقه في ملكه او لم يعلموا ، أو اعتقدوا بتوحيده أو لم يعتقدوا ؛ إذ لا يرجع له سبحانه نفع من اعتقادهم ، وضر من عدمه ، بل نفع اعتقادهم وإيمانهم إنما يرجع إليهم ، وضر كفرهم وشركهم أيضاً كذلك ؛ إذ هو سبحانه منزه عنهما جميعاً { إِنَّ ٱللَّهَ } المستغني عن جميع ما ظهر وبطن { هُوَ ٱلْغَنِيُّ } المقصور على الغنى الذاتي { ٱلْحَمِيدُ } [ لقمان : 26 ] بمقتضى أوصافه الذاتية ، وأسمئه الحسنى التي بها ظهر ما ظهر وما بطن سواء نطقت بحمده ألسنة مظاهره وأظلاله أو لم تنطق ؛ إذ هو في ذاته متعالٍ عن النقص والاستكمال ، واستجلاب النفع والإجلال مطلقاً . ثمَّ لمَّا أمر اليهود وفد قريش بأن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ ٱلْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 85 ] كيف قال سبحانه هذا مع أنَّا قد أُنزل إلينا التوراة ، وفيها علم كل شيء ظاهراً وباطناً ؟ ! ردَّ الله عليهم حصرهم علم الحق بالتوراة ، بل بجميع الكتب والصحف المنزلة على عموم الرسل وقاطبة الأنبياء ؛ إذ كل ما دخل في حيطة الإنزال والإتيان متناهٍ ، وحضرة علمه سبحانه في نفسه غير متناهٍ ، ولا نسبة بين المتناه وغير المتناه ، بل علمه سبحانه بالنسبة إلى معلوم ومقدور واحد باعتبار شئونه وتطوراته غير متناه ، فكيف بعموم المعلوما والمقدروات ؟ ! . فقال سبحانه على مقتضى استعداد من على الأرض وقابليتهم وقدر عقولهم ، مبيناً عن عدم نهاية حضرة علمه منها لها : { وَلَوْ أَنَّ } جميع { مَا فِي ٱلأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ } أي : كل ما لها ساق من هذا الجنس { أَقْلاَمٌ وَٱلْبَحْرُ } أي : المحيط الذي هو كرة الماء الكائن حول الأرض { يَمُدُّهُ } أي : يصير مداداً لها وحبراً لثبتها ومدها ، بل يفرض أيضاً { مِن بَعْدِهِ } أي : بعد نفاذ البحر المحيط { سَبْعَةُ أَبْحُرٍ } مثلاً محيطات كذلك تشيعه وتمد مده ، فكتب بهذه الأقلام والمداد على الدوام كلمات الله العلي العلام { مَّا نَفِدَتْ } وتمت { كَلِمَاتُ ٱللَّهِ } وتنفد المدد والأقلام المذكورة ، بل إن فرض أمثالها وأضعافها وآلافها ؛ إذ الأمور الغير متناهية لا تقدر بمقدار المتناه ، ولا يكال بمكيال مقدر ، وكيف يكال ويقدر علمه { إِنَّ ٱللَّهَ } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { عَزِيزٌ } غالب قادر على كل ما جرى في حضرة علمه ، مع أنه لا نهاية لمعلوماته { حَكِيمٌ } [ لقمان : 27 ] لا ينتهي حكمته وقدرته بالنسبة إلى مقدور دون مقدور ، بل له التصرف في كل واحدة من مقدوراته ومراداته إلى ما لايتناهى أزلاً وأبداً ؛ إذ لا يكتنه طور علمه وخبرته ، وحكمته وقدرته مطلقاً ؟ ! . ومن جملة مقدوراته الصادرة منه سبحانه على مقضتى حكمته إرادة واختياراً : خلقكم وإيجادكم أولاً على سبيل الإبداع بمقتضى اللطف والجمال ، وإعدامكم ثانياً على مقتضى القهر والجلال ، وإعادتكم وبعثكم ثالثاً إظهاراً للحكم المودعة فيه هوياتكم وأشباحكم ، والمصلحة المندرجة في إيجادكم وإظهاركم . والمحجوبون المقيدون بسلاسل الأزمان والساعات يتوهمون بين الأطوار الثلاثة والنشأة المتعاقبة أمداً بعيداً وأزمنة متطاولة ، وهي عند الله بعدما تعلق إرادته ونفذ قضاؤه ، وصدر عنه الأمر بقوله : كن ، فيكون الكل بلا تراخٍ ومهلةٍ في أقصر مدة وآن ؛ إذ لا يشغله شأن عن شأن ، ولا يقدر أفعاله زمان ومكان ؛ لذلك قال سبحانه : { مَّا خَلْقُكُمْ } وإظهاركم في فضاء الوجود في النشأة الأولى { وَلاَ بَعْثُكُمْ } وحشركم في النشأة الأخرى بعدما انقرضتم عن الأولى { إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني : إيجادكم جملة أولاً ، وبعثكم ثانياً كذلك في جنب قدرتنا وإرادتنا كإيجاد نفس واحدة بلا تفاوت ؛ إذ متى صدر عنا قولنا : كن ، إشارةً منَّا إلى خلقكم وبعثكم جملة ، فيكون الكل في الحال ككون نفس واحدة { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع لسرائر ما ظهر وبطن { سَمِيعٌ } لعموم ما صدر عن ألسنة استعداداتهم وقابلياتهم { بَصِيرٌ } [ لقمان : 28 ] بما لاح عليهم من إشراق نور الوجود .