Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 49-54)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ قُلْ } يا أكمل الرسل بعدما بينت لهم طريق الحق كلاماً ناشئاً عن محض الحكمة ، خالياً عن وصمة الكذب مطلقاً : { جَآءَ ٱلْحَقُّ } الحقيق بالاتباع ، وظهر الإسلام الجدير بالإطاعة والاستسلام ، فلكم أن تغتنموا الفرصة وتنقادوا له مخلصين { وَ } نبههم ويا أكمل الرسل أيضاً أنه بعدما ظهر نور الإسلام ، وعلا قدره ، وارتفع شأنه { مَا يُبْدِىءُ } ويحدث { ٱلْبَاطِلُ } الذي زق واضمحل ظلمته بنور الإسلام ، وغار مناره في مهاوي الجهل وأغوار الخذلان { وَ } صار إلى حيث { مَا يُعِيدُ } [ سبأ : 49 ] أصلاً في حين من الأحيان . سبحان من أظهر أنوار الإسلام ورفع أعلامه ، وقمع الكفر وأخفض أصنامه . ثم لما طعن المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعيَّروه بأن تركت دين آبائك واخترعت ديناً من تلقاء نفسك ، فقد ضللت باختيارك هذا ، بتركك ذاك عن منهج الرشاد ، ورد الله سبحانه عليهم قولهم هذا وتعييرهم ، آمراً لنبيه على وجه الامتنان : { قُلْ } لهم يا أكمل الرسل بعدما عيروك وطعنوا في شأنك ودينك : { إِن ضَلَلْتُ } وانحرفت عن سبيل السلامة وجادة الاستقامة { فَإِنَّمَآ أَضِلُّ } وأنحرف { عَلَىٰ نَفْسِي } وبمقتضى أهويتها ومشتهياتها ، وشؤم لذاتها وشهواتها { وَإِنِ ٱهْتَدَيْتُ } إلى التوحيد والعرفان ، ونلت إلى أسباب درجات الجنان { فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } أي : بسبب وحيه وإلهامه إليّ ، وامتنانه عليّ بالهداية إلى أنواع الكرامات وأصناف اللذات الروحانية { إِنَّهُ } سبحانه { سَمِيعٌ قَرِيبٌ } [ سبأ : 50 ] يسمع مناجاتي ، ويقضي جميع حاجاتي على وجهها إن تعلق إرادته ومشيئته بها بعدما جرى وثبت في حضرة علمه ، ومضى عليها قضاؤه في لوحه بحيث لا يفوته شيء . { وَ } من كمال قرب الله سبحانه لعباده { لَوْ تَرَىٰ } أيها الرائي وقت { إِذْ فَزِعُواْ } أي : الكفرة والمشركون وقت حلول الأجل ونزول العذاب عليهم في يوم الساعة ، لرأيت أمراً فظيعاً { فَلاَ فَوْتَ } أي : حين لا فوت لهم عن الله ، لا منهم ولا من أعمالهم و أحوالهم شيء { وَ } إن تحصنوا بالحصون الحصينة والقلاع المنيعة والبروج المشيدة ، بل { أُخِذُواْ } حيثما كانوا { مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } [ سبأ : 51 ] من الله ، ولو كانوا في قعر الأرض ، أو قلل الجبال ، أو في قلب الصخرة ، أو فوق السماء ، أو في أي مكان من الأماكن المخفية ، وبالجملة : أُخذوا من مكان قريب بالنسبة إليه سبحانه ؛ إذ هو سبحانه منزه عن الأمكنة ، شهيد حاضر في جميعها ، غير مغيب عنها . { وَ } بعدما اضطروا إلى الهلاك أو العذاب في يوم الجزاء { قَالُوۤاْ } بعدما انقرض وقت الإيمان ومضى أوانه : { آمَنَّا بِهِ } أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَأَنَّىٰ لَهُمُ ٱلتَّنَاوُشُ } أي : من أين يتأتى ويحصل لهم تناول الإيمان وتلافيه { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ سبا : 52 ] بمراحل عن الإيمان ؛ إذ قد انقرض مدة التكليف والاختيار . وحين كانوا قريبين ، قادرين على تناوله وتعاطيه ، لم يختاروه ولم يتصفوا بهن بل { وَقَدْ كَـفَرُواْ بِهِ } صلى الله عليه وسلم وأنكروا عليه على كتابه ودينه { مِن قَـبْلُ } في النشأة الأولى ، أو في زان الصحة ؛ أي : قبل ما عاينوا بالعذاب والهلاك { وَ } هم قد كانوا في زمان الإيمان به صلى الله عليه وسلم وبكتابه { يَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ } أي : يرمونه ويرجمونه رجماً بالغيب ، ويقولون في حقه على سبيل التخمين والحسبان عدواناً وظلماً : إنه كاهن ، شاعر ، مجنون ، وكتابه أساطير الأولين ، بلا كلام المجانين ، مع أن أمثال هذه الخرافات بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم وعلى كتابه { مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ سبأ : 53 ] بمراحل عن شأنه العلي العظيم ، وكتابه الجلي الكريم ، وإيمانهم في حالة اضطرارهم أبعد عن محل القبول بمراحل أيضاً . { وَ } بعدما آيسوا عن قبول الإيمن وقت الاضطرار { حِيلَ } وحجب { بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } من الإيمان والنجاة المترتبة عليه ، ففعل بهم حينئذ { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم } وأشباههم { مِّن قَبْلُ } من الكفرة المضاين الهالكين ، الملتجئين إلى الإيمان وقت اضطرارهم وهجوم العذاب عليهم ، كفرعون وقارون وغيرهما { إِنَّهُمْ } قد { كَانُواْ } أمثال هؤلاء الغواة المنهمكين { فِي شَكٍّ } أي : غفلة وتردد { مُّرِيبٍ } [ سبأ : 54 ] موقع أصحابه في ريب عظيم ، وكفر شديد ، وإنكار غليظ . أعاذنا الله وجميع عباده عن أمثاله بمنِّه وجوده . خاتمة السورة عليك أيها السالك ، المتدرج في درجات اليقين من العلم إلى العين إلى الحق - وفقك الله إلى أعلى مطالبك ، وأعانك في إنجائه - أن تتمكن في مقعد الصدق الذي هو مرتبة الرضا ، معرضاً عن الشك والتردد في مقتضيات القضاء ، ومبرمات الأحكام المثبتة في حضرة العلم الإلهي ، وأن تتوجه نحوه سبحانه في جميع حالاتك بذيل كرم نبيه المؤيد من عنده الذي أرشدك إلى توحيده ، مسترشداً من آيات كتاب الله المنزنل على رسوله ، المبين لسلوك طريق التوحيد واليقين ، وأحاديث النبي الموضح لمغلقات الكتاب ، المشير إلى رموزه وإشاراته . فلك في كل الأحوال التبتل إلى الله ، والتوكل نحوه ، والتفويض إليه ، فاتخذه سبحانه وكيلك في جميع حوائجك ، وحسيبك في جميع مهماتك ، يكفيك معيناً ، وكيف عنك شرور أعدائك مطلقاً . وإياك إياك أن تختلط مع أصحاب الغفلة وأرباب الثروة ، المفتخرين بما عندهم من المال الجاه ، والنسب العلي والحسب الذي يباهي صاحبه ويتفوق على أقرانه ويطلب الرئاسة والسيادة بسببه . وإن أردت أن تجلس مع بني نوعك وتصاحب معهم ، فاختر منهم من انقطع عن الدنيا وأمنايها ، وتزهد عنها وما فيها ، سوى سد جوعة وستر عورة وكنِّ يحفظه عن البرد والحر ، وصاحب معه مصاحبة الحائر التائه في بيداء ، لا يدري أين طرفاها ، متفكرين متدبرين للخروج منها ، والنجاة عن أهوالها وأغوالها . فلك أن تتذكر في عموم أوقاتك قوله صلى الله عليه وسلم ، واجعله نصب عينيك في جميع حالاتك وهو : " كن في الدنيا كأنك غريب أو كعابر سبيل ، وعد نفسك من أصحاب القبور " . جعلنا الله ممن امتثل به ، وتذكر وعمل بمقتضاه ، ووجد في نفسه حلاوة معناه بفضله ولطفه .