Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 44-48)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أشار سبحانه إلى غاية تجهيل المشركين ونهاية تسفيههم ، فقال : { وَمَآ آتَيْنَاهُمْ } وأنزلنا عليهم { مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا } وفيها دليل الإشراك وإثبات الآلهة ، بل كل الكتب منزلة على التوحيد وبيان طريقه { وَ } كذلك { مَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ } يا أكمل الرسل { مِّن نَّذِيرٍ } [ سبأ : 44 ] ينذرهم عن التوحيد ، ويدعوهم إلى الشرك ، بل كل من أرسل من الرسل ، فإنما هو على إرشاد التحيد والإنذار عن الشرك المنافي له . ثم أشار سبحانه إلى تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتهديدهم بالأخذ والبطش ، فقال : { وَ } كما كذب هؤلاء المكذبون بك أكمل الرسل وبكتابك { كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } من الأمم رسلهم والكتب المنزل عليهم { وَ } هم ؛ أي : هؤلاء الغواة المكذبون لك يا أكمل الرسل { مَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ } أي : عشر ما أعطينا لأولئك المكذبين الماضين من الجاه والثروة والأمتعة الدنيوية وطول العمر ، ومع ذلك { فَكَذَّبُواْ رُسُلِي } فأخذناهم مع كمال قوتهم وشوكتهم { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } [ سبأ : 45 ] أي : إنكاري وانتقامي إياهم بالتدمير والهلاك ، مع إنكارهم على رسلي وكتبي بالتكذيب والاستخفاف . { قُلْ } يا أكمل الرسل بعدما بلغ إلزامهم وتهديدهم غايته : { إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي : ما أذكر لكم وأنبه عليكم إلا بخصلة واحدة كريمة ، وهي : { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ } وحده ، وتوحدوه عن وصمة الكثرة مطلقاً ، وتواظبوا على أداء الأعمال الصالحة المقربة إليه ، المقبولة عنده سبحانه ، وتخلصوها لوجهه الكريم بلا شوب شركة ولوث كثرة وخباثة ، رياء ورعونة ، سمعة وعجب ، واسترشدوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم { مَثْنَىٰ } أي : اثنين اثنين { وَفُرَادَىٰ } أي : واحد واحد ؛ يعني : متفرقين بلا زخام مشوش للخاطر ، مخلط للأقوال ، حتى يظهر لكم شأنه صلى الله عليه وسلم ويتبين دونكم برهانه { ثُمَّ } بعدما ترددتم عليه صلى الله عليه وسلم على وجه التعاقب والتفريق { تَتَفَكَّرُواْ } فيما لاح عنكم منه صلى الله عليه وسلم ، وتأملوا فيه حق التأمل والتدبر على وجه الإنصاف ، معرضين عن الجدل والاعتساف ؛ لينكشف لكم أنه { مَا بِصَاحِبِكُمْ } يعني : محمد صلى الله عليه وسلم { مِّن جِنَّةٍ } أي : جنون وخبط يعرضه ويحمله على ادعاء الرسالة بلا برهان واضح يتضح له وينكشف دونه ، كما زعم في حقه صلى الله عليه وسلم مشركوا مكة - لعنهم الله - كي يفتضح على رءوس الأشهاد ، كما نشاهد من متشيخة زماننا - خذلهم الله - أمثال هذه الخرافات بلا سند صحيح . وبعدما لم يساعدهم البرهان والكرامة افتُضحوا ، وهو صلى الله عليه وسلم مع كمال عقله ورزانة رأيه ومتانة حكمته ، كيف يختار ما هو سبب الشنعة والافتضاح ؟ ! تعالى شأنه صلى الله عليه وسلم عما يقول الظالمون علواً كبيراً . والمعنى : ثم بعدما جلستم عنده صلى الله عليهم وسلم على الوجه المذكور ، تكلمتم معه على طريق الإنصاف ، تتفكرون وتتأملون ، هل تجدونه صلى الله عليه وسلم معروضاً للخبط والجنون ، أم للأمر السماوي الباعث له صلى الله عليه وسلم على أمثال هذه الحكم والأحكام والعبر والأمثال التي عجزت دونها فحول العقلاء وجماهير الفصحاء والبلغاء ، البالغون أقصى نهاية الإدراك ، مع وفور دعاويهم ، وبمعارضتها والتحدي معها ؟ ! بل { إِنْ هُوَ } أي : ما هذا الرسول المرسل إليكم المؤيد بالبراهين الواضحة والمعجزات اللائحة المثبتة لرسالته { إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ } من قبل الحق { بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [ سبأ : 46 ] أي : قبيل الساعة ، وقدام يوم القيامة المعدة لأنواع العذاب والنكال على عصاة العباد . وإن اتهموك يا أكمل الرسل بأخذ الأجر والجعل على أداء الرسالة وتبليغ الأحكام ، بل حصروا ادعاءك الرسالة ودعوتك على هذا فقط { قُلْ } لهم على طريق الإسكات والإلزام : ما سألت منكم شيئاً من الجعل أصلاً ، وإن فرض أني سألت منكم شيئاً ، فاعلموا أن { مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ } على إرشادكم وتكميلكم { فَهُوَ لَكُمْ } أي : هبة لكم ، مردود عليكم { إِنْ أَجْرِيَ } أي : ما أجري وجعلي على تحمل هذه المشاق والمتاعب الورادة في تبليغ الرسالة وإظهار الدعوة { إِلاَّ عَلَى ٱللَّهِ } الذي أرسلني بالحق ، وبعثني بالصدق ، وهو المراقب المطلع على جميع أحوالي ، الحكيم بإفاضة ما ينبغي ويليق بي وبشأني { وَ } كيف لا يطلع سبحانه على أحوال عباده ؛ إذ { هُوَ } بذاته { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } ظهر من الموجودات ولاح عليه لمعة الوجود { شَهِيدٌ } [ سبأ : 47 ] حاضر دونه ، غير بعيد عنه ومغيب عليه . { قُلْ } يا أكمل الرسل بعدما تمادى مراءة أهل الضلال وتطاول جدالهم : لا أبالي باساتهدائكم واسترشادكم ، ولا أبالغ في تمكيلكم ، بل { إِنَّ رَبِّي } العليم باسعتدادات عباده ، الحكيم بإفاضة الإيمان والعرفان على من أراد هدايته وإرشاده { يَقْذِفُ بِٱلْحَقِّ } أي : يلقيه وينزله على قلوب عباده الذين جبلهم على فطرة الإسلام واستعدادات التوحيد والعرفان ، إذ هو سبحانه { عَلاَّمُ ٱلْغُيُوبِ } [ سبأ : 48 ] يعرف استعدادات عباده وقابلياتهم على قبول الحق ، ويميزهم عن أهل الزيغ والضلال ، المجبولين على الغواية الفطرية ، والجهل الجبلي .