Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 1-4)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ٱلْحَمْدُ للَّهِ } المحيط المشتمل على جميع ما صدر عن ألسنة عموم المظاهر حالاً ومقالاً ثابت { فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي : الذي فطر ؛ أي : أظهر وأبدع الأجرام العلوية من كتم العدم بعدما شق وفلق ظلمته بأشعة نور الوجود ، المنعكسة من الصفات الأسنى والأسماء الحسنى الإلهية { وَٱلأَرْضِ } أي : الأجسام أيضاً كذلك ؛ ليتحقق الفاعل والقابل ويتكون منهما من الكوائن والفواسد ما شاء الله بحوله وقوته { جَاعِلِ ٱلْمَلاَئِكَةِ } أي : الذي جعل الملائكة الذين هم سدنة سدته العلية وخدمة عتبته السنية { رُسُلاً } أي : وسائل ووسائط بينه سبحانه وبين خواص عباده من الأنبياء والرسل والأولياء المؤيدين من عنده سبحانه بالرتبة العلية والدرجة الرفيعة ، يبلغون إليهم من قِبَل الحق ما تفضل بهم سبحانه من الوحي المتعلق بخير الدارين ونفع النشأتين ؛ ولذلك صيرهم سبحانه { أُوْلِيۤ أَجْنِحَةٍ } متعددة مفتاوتة يسرعون بها نحو مصلحة بعثهم الله إليها وأمرهم بتبليغها { مَّثْنَىٰ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } أي : لبعضهم أجنجة انثني اثنين ، ولبعضهم ثلاثة ثلاثة ، ولبعضهم أربعة أربعة إلى ما شاء الله ، بلا انحصار في عدد دون عدد ، بل { يَزِيدُ } سبحانه { فِي ٱلْخَلْقِ } أي : في جميع مخلوقاته { مَا يَشَآءُ } بلا حد وحصر ؛ إذ لا ينتهي قدرته دون مقدور ، بل له أن يتصرف فيه إلى مالا يتناهى ، كما روي : " أنه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام ليلة المعراج وله ستمائة جناح " . وهذا دليل على أن ذكر العدد ليس للحصر ، فالآية تدل على أن له سبحانه أن يتصرف في ملكه وملكته كما شاء وكيف شاء ومتى شاء ، فيجوز أن يخلق أنواعاً لم يخلقها قبل من أي جنس كان ، ويخلق أيضاً في فردع نوع أموراً عجيبة من الملاحة والصباحة وحسن الصوت والصورة ، وكمال العقل ورزانة الرأي ، وخواص غريبة لم يخلقها قبل لأفراد أُخر من هذا النوع . ولهذا يتفاوت أشخاص الإنسان في المعارف والحقائق وجميع الأمور المتعلقة بالعقل المتفرعة على الإدراك بحسب الأدوار والأعصار ، بل في زمان واحد أيضاً ؛ إذ بعضهم في نهاية البلادة ، وبعضهم في كمال الجلادة ، وبعضهم في كمال الحسن واللطافة ، وبعضهم في نهاية الكثافة والقباحة . وبالجملة : له سبحانه التصرف في ملكه وملكوته بالاستقلال والاختيار بلا فترة وفتور في علمه وقدرته وإرادته ، إذ هو سبحانه منزه عن السآمة والملال ، وأوصافه بريئة عن وسمة الفترة والكلال { إِنَّ ٱللَّهَ } القادر المقتدر بالقدرة التامة { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } تعلق به إرادته ومشيئته { قَدِيرٌ } [ فاطر : 1 ] لا بدَّ أن يتكون باختياره بلا تخلف كل ما لمع عليه برق إرادته . ومن كمال قدرته سبحانه أنه { مَّا يَفْتَحِ ٱللَّهُ } المدبر لأحوال عباده { لِلنَّاسِ } الناسين حقوق تربيته وتدبيره سبحانه { مِن رَّحْمَةٍ } فائضة لهم بمقتضى جوده تفضلاً عليهم من النبوة والرسالة والولاية والكرامة والعلم والمعرفة والرشد والهداية ، وغير ذلك من الكمالات الفائضة من عنده سبحانه { فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا } أي : لا مانع لها يمنعها عنهم { وَمَا يُمْسِكْ } ويمنع سبحانه من أمر بمقتضى قهره وجلاله { فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ } يرسله إليهم { مِن بَعْدِهِ } أي : بعد منعه سبحانه { وَ } كيف يسع لأحد ما يمنعه ؛ إذ { هُوَ ٱلْعَزِيزُ } المقصود ، المنحصر ذاته على العزة والغلبة ، لا عزيز دونه { ٱلْحَكِيمُ } [ فاطر : 2 ] المستقل في المنع والإرسال إرادةً ، لا يُسأل عن فعله ، ولا مبدل لقوله : ولا معقب لحكمه . ثم نادى سبحانه أهل النعمة وخاطبهم ؛ ليقبلوا عليه ويواظبوا على شكر نعمه فقال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } المجبولون على الغفلة والنسيان { ٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ } الفائضة { عَلَيْكُمْ } واشكروا له ؛ أداء لحقوق كرمه ، وتفكروا في آلائه ونعمائه { هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ ٱللَّهِ } المتوحد بوجوب الوجود ودوام البقاء { يَرْزُقُكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ } أي : من امتزاج العلويات بالسفليات ، واختلاط الفواعل والأسباب مع القوابل والمسببات المسخرة تحت قدرة العليم الحكيم ؛ لينكشف لكم ويتبين أنه { لاَ إِلَـٰهَ } يعبد بالحق ويُتوجه إليه ، ويُسند الحوادث إلى حكمه والنعم الفائضة إلى فضله وجوده { إِلاَّ هُوَ } الله الحق الحقيق بالإطاعة والرجوع ، لا مرجع سواه ولا مقصد إلا هو { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } [ فاطر : 3 ] وكيف تُصرفون عن توحيد ، وتُردون عن بابه أيها الآفكون المجرمون . { وَ } بعدما بعثت يا أكمل الرسل لإرشاد أهل الضلال وتبليغ الرسالة إليهم ، فلك أن تتصبر على المتاعب والمشاق الواردة في حملها { إِن يُكَذِّبُوكَ } هؤلاء الضالون بعدما دعوتهم إلى الحق ، فتأسَّ إخوانك الرسل واصبر على أذى تكذيبهم { فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ } عظام كثير { مِّن قَبْلِكَ } أمثالك ، فصبروا على ما كُذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا { وَ } هم قد علموا أنه { إِلَى ٱللَّهِ } الواحد الأحد ، القادر المقتدر على الإنعام والانتقام ، لا إلى الوسائل والأسباب العادية { تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ } [ فاطر : 4 ] الكائنة من التصديق والتكذيب والصبر والأذى ، وغير ذلك من الحوادث ؛ إذ كلها مستندة إلى الله أولاً وبالذات ، حاضرة في حضرة علمه ، ثابتة في لوح قضائه ، يجازي كلاً من المحقين والمبطلين ، المصدقين والمكذبين على مقتضى علمه وخبرته .