Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 77-83)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم لما بالغ الكفرة المنكرون المصرون في إنكار البعث وتكذيبه ، وجادلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى وجه العناد والمكابرة ، حتى أتى أُبي بن خلف ، أتى بعظم بال ، وفته عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال متعجباً على سبيل الإنكار مستبعداً : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً } [ المؤمنون : 82 ] كذلك إنا مخرجون مبعوثون { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } [ المؤمنون : 36 ] . رد الله سبحانه لمن أنكر قدرته على البعث فقال : { أَ } ينكر المنكر قدرتنا على إعادة الروح إلى الجمادات { وَلَمْ يَرَ ٱلإِنسَانُ } المجبول على الدارية والشعور ، ولم يتذكر ولم يعلم { أَنَّا خَلَقْنَاهُ } وقدرنا وجوده أولاً { مِن نُّطْفَةٍ } مهينة ، وهي أرذل من التراب { فَإِذَا هُوَ } اليوم بعدما سويناه رجلاً كاملاً في العقل والرشد { خَصِيمٌ مُّبِينٌ } [ يس : 77 ] ومجادل زعيم ، ظاهر المراء والمجادلة معنا ، منكراً لقدرتنا ، مع أنه كان جماداً أرذل في غاية الرذالة والحقارة . { وَ } ما يستحقي منا ومن قدرتنا حتى { ضَرَبَ لَنَا مَثَلاً } موضحاً لنفي قدرتنا { وَ } قد { نَسِيَ خَلْقَهُ } أي : خلقنا إياه ، ومن كمال نسيانه وضلاله { قَالَ } متعجباً على سبيل الإنكار : { مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ } البالية { وَ } الحال أنه { هِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] بالية في غاية البلى إلى حيث تتفتت أجزاؤها وتطيرت بالرياح . { قُلْ } يا أكمل الرسل في جوابهم بعدما بالغوا في الإنكار والاستبعاد : { يُحْيِيهَا } أي : العظام ، ويعيد الروح إليها { ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ } أي : المحيي ، القادر المقتدر على خلقها وإبرائها { أَوَّلَ مَرَّةٍ } من كتم العدم إنشاءً إبداعياً بلا سبق مادة ومدة { وَ } إن استبعدوا واستحالوا جميع الأجزاء المنبثة المفتتة ، الممتزجة بعضها مع بعض إلى حيث يستحيل امتيازها وافتراقها أصلاً ، قل : { هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ } ومخلوق من نقير وقطمير { عَلِيمٌ } [ يس : 79 ] بعلمه الحضوري ، لا يغيب عن حيطة علمه ذرة ، ولا يشبته عليه شيء من معلوماته ، فله سبحانه أن يميز أجزاء كل شخص شخص ، ويركبها على الوجه الذي كان عليه في النشأة الأولى ، ثم يعيد الروح عليه ، فاصر حياً كما كان ، وما ذلك على الله بعزيز . وكيف لا يقدر العليم الحكيم على امتياز أجزاء الأنام والتئامها وإعادة الروح إليها هو { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُم } بمقضتى علمه وقدرته { مِّنَ ٱلشَّجَرِ ٱلأَخْضَرِ } الرطب الذي يتقاطر منه الماء { نَاراً } مع أن بين النار والماء من التضاد ، وكيف تنكرون إخراج النار من الشجر الرطب { فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ } [ يس : 80 ] حيناً كثيراً . قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : شجرتان معروفتان يقال لأحدهما : المرخ ، وللآخر : العفار ، فمن أراد منهما النار ، قطع منهما عضنين مثل السواكين ، وهما خضراوان يقطر منهما الماء ، فيسحق المرخ على العفار ، فيخرج منهما النار بإذن الله تعالى . ولهذا قال الحكماء : لكل شجر نار إلاَّ العناب . ثم أشار سبحانه أيضاً إلى كمال قدرته واختياره فقال : { أَ } ينكر المنكرون قدرتنا على البعث وحشر الموتى { وَلَـيْسَ } القادر المقتدر { ٱلَذِي خَلَقَ } وأوجد { ٱلسَّمَاواتِ } أي : العلويات وما فيها { وَٱلأَرْضَ } أي : السفليات وما عليها { بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } ويعيدهم أحياء كما كانوا { بَلَىٰ } من قدر على خلق السماوت العلا والأرضين السفلى ، قادر على بعث الموتى وحشرهم في النشأة الأخرى { وَ } كيف لا يقدر { هُوَ ٱلْخَلاَّقُ } المبالغ في تكثير الخلق والإيجاد ، إبداء وإعادة { ٱلْعَلِيمُ } [ يس : 81 ] بجميع المعلومات ، أزلاً وأبداً على التفصيل بحيث لا يخرج عن حيطة حضوره ذرة من ذرائرها ما كان ويكون ، بل الكل عنده ممتاز محفوظ . ولا تستبعدوا أيها الجاهلون بالله وبعلمه ، وقدرته وسائر أوصافه الكاملة وأسمائه الشاملة أمثال هذا ، بل هي بالنسبة إليه سبحانه سهل ويسير . وكيف لا يسهل عليه سبحانه أمثال هذا { إِنَّمَآ أَمْرُهُ } وشأنه { إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً } أي : تعلق إرادته بتكوين شيء من معلوماته ومقدوراته { أَن يَقُولَ لَهُ } بعد تعلق إرادته : { كُن } المؤدي لأمره وحكمه { فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] المأمور المحكوم بلا تراخ ومهلة ، والتعقيب إنما نشأ من العبارة وإلا فلا تأخير ولا تعقيب في سرعة نفوذ قضائه سبحانه . وإياك ومحتملات الألفاظ ، فإنها بمعزل عن أداء كيفية أمر الله وشأن حكمه وقضائه على وجهه ، ومتى سمعت ما سمعت من كمال قدرة الله ومتانة حكمته وحيطة علمه وإرادته { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } وله التصرف بالاستقلال والاختيار في ملكه وملكوته ؛ يعني : تنزه ذات من بيده مقاليد الملك والملكوت من أن يعجز عن إعادة الأموات أحياء بعدما أبدعهم عن العدم كذلك ، ولم يكونوا حينئذ شيئاً مذكوراً ، تعالى شأنه عما يقولون حقه علواً كبيراً { وَ } كيف لايقدر سبحانه على البعث والإحياء ؛ إذ { إِلَيْهِ } لا إلى غيره ؛ إذ لا غير معه في الوجود ولا إله سواه موجود ومشهود { تُرْجَعُونَ } [ يس : 83 ] رجوع الأمواج إلى الماء ، والأضواء إلى الذكاء ، سبحانه من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء . خاتمة السورة عليك أيها السالك المتدبر المتأمل في كيفية رجوع الكائنات إلى الوحدة الذاتية وإيناط المظاهر والمصنوعات إلى المبدأ الحقيقي والمنشأ الأصلي - أزال الله عن بصر بصيرتك سبل الحول ، وأعانك على رفع الحجب وكشف العلل - أن تصفِّي باطنك عن الميل إلى الغير مطلقاً ، بحيث يصير باطنك مملوءاً بمحبة الله ، فتترسخ تلك المحبة فيه وتتمون إلى أن خفي عليك خواطرك وهواجس نفسك ، ثم تسري من باطنك إلى ظاهرك ، فيشغلك عن جميع مشتهياتك ومستلذاتك ، ومتقضيات قواك وجوارحك ، فيمتلئ منها ظاهرك وباطنك ، فحينئذ لم يبق لك التفات إلى الغير مطلقاً ، فصرت حيراناً ، مدهوشاً ، مستغرقاً بمطالعة وجهه الكريم ، وبعدما صرت كذلك ، جذبك الحق عنك وسترك عليك إن إبت فيه وفنيت ، فحينئذ حق لك أن تقول بلسان استعدادك بعدما فنيت آثار رسومك في الله : إن لله وإنا إليه راجعون { فَسُبْحَانَ ٱلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ يس : 83 ] .