Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 30-40)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَ } بعدما كرمناه بتشريف خلعة الخلافة { وَهَبْنَا لِدَاوُودَ } ولداً خلفاً عنه ، وارثاً لملكه وخلافته ، محيياً اسمه ومراسم دينه ومعالم ملته ؛ يعني : { سُلَيْمَانَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ } سليمان ؛ لأنه مقبول عندنا ، مقرب من حضرتنا ، مكرم لدينا ، وكيف يكون كذلك { إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 30 ] رجَّاع إلينا ، ملتجئ نحونا في عموم الأوقات وشمول الحالات على وجه الخلوص والتفويض التام . اذكر يا أكمل الرسل كمال رجوعه وإخلاصه في وقت { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ } وهو مشمر إلى الغزو ومهيّئ لأسبابه ، متمكن على كرسيه لضبط العسكر وآلات القتال بالعشي { ٱلصَّافِنَاتُ } من الخيل ، وهي التي تدور سريعاً كالرحى على طرف حافر من حوافره ، إن أراد الركاب تدويره ، وهي من أكمل أوصاف الخيل وأحمدها عند أصحاب القتال ؛ لأن المبارز كثيراً ما يحتاج إلى تدوير فرسه يوم الوغى { ٱلْجِيَادُ } [ ص : 31 ] سريعة الجري والعدو . وذلك أنه جلس على كرسيه يوماً بعدما فرغ من ورده في الظهيرة ؛ لإعداد أسباب الغزو والقتال الذي قصد أن يخرج إليه يومئذ ، فأمر بعرض الخيول عليه ، فأشغله الالتفات والتجه نحو الخيول عن ورد عصره ، فتذكر والشمس قد غربت ، فاغتم غمّاً شديداً ، وتحزَّن تحزناً بليغاً إلى حيث لم يطرأ عليه مثله . { فَقَالَ } من شد أسفه وضجرته متأوهاً لائماً على نفسه : { إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ } الخيل { حُبَّ ٱلْخَيْرِ } أي : كحب الخير والتوجه المقرب إلى الله ، لذلك ألهاني { عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ } الشمس { بِٱلْحِجَابِ } [ ص : 32 ] وفات عني وردي الذي كا نقبل الغروب . وبعدما وقع ما وقع من الغفلة ، تسارع إلى التدارك والتلافي ، فأخذ يقطع عرق الباعث إلى الإلهاء والإغفال ، فقال للشرطة : { رُدُّوهَا } أي : الصافنات { عَلَيَّ } وكُرّوها إليّ ، فأعدوها معرضين ثانياً { فَطَفِقَ } سليمان ، وأخذ السيف الصارم بيده ، يمسح ويمضي { مَسْحاً } وإمضاء ملاصقاً { بِٱلسُّوقِ } وهي جمع : ساق { وَٱلأَعْنَاقِ } [ ص : 33 ] يعني : أخذ بقطع قوائمها ورءوسها ، ليزول حبها عن قلبه ، ويتصدق بها طلباً لمرضاة ربه ، وجبراً لما انكسر من ورده . وعن المرتضى المجتبى - كرم الله وجهه - : أن الضمير في { رُدُّوهَا } راجع إلى الشمس ؛ يعني : أمر سليمان الموكلين على الشمس بإذن الله ووحيه أياه ، أن يردوا الشمس بعدما غربت ؛ ليأتي سليمان بورده ، فأتى بما أتى ، وذلك من كمال كرم الله معه . { وَ } مع كونه مقبولاً عندنا ممدوحاً لدينا { لَقَدْ فَتَنَّا } وابتلينا { سُلَيْمَانَ } بفتنة عظيمة ، وأخذنا منه ملكه بجريمة صدرت من أهل بيته بأدنى ملابسة له ورضا من جانبه . وذلك أنه عليه السلام غزا " صيدون " من الجزائر ، فقتل ملكها فأصاب ابنته اسمها جرادة ، وهي من أجمل النساء وأحسنها شكلاً ، فأعجب سليمان بحسنها وخصها لنفسه ، وهي أحب عليه من سائر نسائه ، وكانت من شدة حزنها وكآبتها على أبيها لا يرقى دمعها ، ولا يزال همها ، فأمر عليه السلام الشياطين فمثل لها صورة أبيها ، فكانت تغدو إليها و تروح مع ولائدها يسجدون لها ، على ما هي عادتها في حياته وملكه . ومضى عليها أربعون يوماً ، فاستشعر بها آصف بن برخيا فأخبره ، فكسر الصورة وضرب المرأة والولائد ، فخرج عليه السلام إلى الصحراء باكياً متألماً مستحيياً من ربه ، وكان من عادته عليه السلام إذا دخل الخلاء أعطى خاتمه الذي فيه ملكه إلى أمة له اسمها أمينة ، فأعطاها يوماً فتمثل بصورة سليمان شيطان امسه صخر ، فجاء فطلب الخاتم من أمينة فأخذه فتختم به ، وجلس على كرسيه ، واجتمع الخلق عليه ، وقضى ما قضى ونفذ حكمه في كل شيء إلا في نسائه ، وغيّر سليمان عن هيئته وسلطنته ، فأتى أمينة بطلب الخاتم فطردته وأنكرت عليه ، فعرف أن الفتنة قد أدركته . فأخذ يدور حول البيوت يتكفف حتى مضى أربعون يوماً عاد ما عبد في بيته الصورة ، وبعد انقضاء المدة المذكورة ، طار الشيطان من كرسيه وقذف الخاتم في البحر ، فابتلعته سمكة فوقعت في يد سليمان من قضاء الله ومزيد كرمه وعطائه عليه ، فبقر بطنها فوجد الخاتم فتختم به ، فعاد ملكه عليه ، وخرَّ ساجداً وأناب إلى الله متضرعاً كما أخبر سبحانه . وبعدما فتناه بفتنة عظيمة وهي عبادة غيرنا في بيته برضاء منه ، وأخذناه عليها وأخرجناه من ملكه بفقد الخاتم عنه { وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ } وأجلسنا بدله عليها { جَسَداً } تمثالاً وصورة لا حقيقة لها ، { ثُمَّ } بعدما ابتليناه بما ابتليناه قد { أَنَابَ } [ ص : 34 ] إلينا مخلصاً متضرعاً ، فقبلنا توبته عناية منَّا إياه ؛ حيث { قَالَ } في مناجاته معنا ، وعرض حاجاته إلينا : { رَبِّ } يا من رباني بمقتضى لطفك وجودك ، وأعطيتني من مواهبك ما لم تعطِ أحداً من خلقك { ٱغْفِرْ لِي } ذنبي ، واعفُ زلتي بسعة رحمتك وجودك { وَ } بعدما غفرتني ومحوت عني معصيتي { هَبْ لِي مُلْكاً } كما وهبتني قبل هذا ، وخصصتني به بمقتضى جودك وإحسانك علي ؛ إذ { لاَّ يَنبَغِي } ويليق بشأنك وبمزيد لطفك وإحسانك أن تعطيه { لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } إذ لا راد لفظلك ، ولا مانع لعطائك { إِنَّكَ أَنتَ } المحسن { ٱلْوَهَّابُ } [ ص : 35 ] المقصور المنحصر على إعطاء المواهب والكرامات ، بلا عوض ولا غرض ؛ إذ لا معطي سواك ولا مفضل غيرك . وبعدما توجه إلينا وتضرع نحونا على وجه الإنابة والخضوع والتذلل والخشوع ، آتينا ملكه ، وأجرينا حكمه كما كان { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ } بعدما انتقمنا عنه ، وجعلناها مقهورة له ، محكومة بحكمة ؛ حيث { تَجْرِي بِأَمْرِهِ } منقادة بحكمه { رُخَآءً } لينة هينة ، بلا تضعضع وتزعزع يتعب منه الراكب { حَيْثُ أَصَابَ } [ ص : 36 ] أي : يجري بأمره أي صوب أراد ، وجانب قصد . { وَ } أيضاً سخرنا له { ٱلشَّيَاطِينَ } وجعلناهم منقادين لحكمه { كُلَّ بَنَّآءٍ } منهم يبني له أبنية عجيبة ، وقصوراً مشيدة منيعة ، وحصوناً محكمة ، لا يسع للإنس أن يعمل مثلها { وَ } كل { غَوَّاصٍ } [ ص : 37 ] منهم يغوصون لأجله في لجج البحار ، ويستخرجون لخزائنه من اللآلئ النفيسة ما لا يعد ولا يحصى . { وَآخَرِينَ } من الشياطين ، وهم المردة الممتنعون عن الإطاعة والانقياد ، جعلناههم { مُقَرَّنِينَ } مشدودين محبوسين { فِي ٱلأَصْفَادِ } [ ص : 38 ] أي : القيود والأغلال المضيقة بمقتضى أمره وحكمه . ثم قال سبحانه امتناناً عليه ، وتنبيهاً على تعظيمه وتكريمه : { هَـٰذَا } المذكور من الحكومة والخلافة والتسخيرات السالفة { عَطَآؤُنَا } عليك يا من اصطفيناك لوارثة النبوة والخلافة { فَٱمْنُنْ } منه لمن شئت ، واجعل حق المستحقين محفوظاً به { أَوْ أَمْسِكْ } لنفسك ، ولا تعطِ أحداً ؛ يعني : لكل الخيار في المنع والإعطاء { بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ ص : 39 ] عليك ، وسؤال عن فعلك ، إذ أمره مفوض إليك . { وَ } كيف لا يفوض لأمر ما أعطيناه إياه إلينا { إِنَّ لَهُ } أي : لسليمان عليه السلام { عِندَنَا } وفي ساحة عز حضورنا { لَزُلْفَىٰ } درجة قريبة من درجات الوصال { وَحُسْنَ مَآبٍ } [ ص : 40 ] أي : خبر مرجع ومنقلب من مراتب التمكن في التوحيد ، والتقرب في مقر القبول .