Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 41-48)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ وَٱذْكُرْ } يا أكمل الرسل { عَبْدَنَآ أَيُّوبَ } هو ابن عيص بن اسحاق ، وامرأته ليّا بنت يعقوب ، أضافه سبحانه إلى نفسه لكمال رضاه منه ولطفه معه ؛ حيث صبر على ما مضى عليه من بلائه وجرى عليه من قضائه ، كما شكر على آلائه ونعمائه ، ولم ينقص من إخلاصه جالتي السراء والضراء . اذكر يا أكمل الرسل كمال تصبر أخيك أيوب ، وإخلاصه في توجهه إلينا للمتذكرين المعتبرين من أمتك ؛ كي يتذكروا من قصته ، ويتخلقوا بشيء من تصبره وتمكنه في مقر التفويض والتسليم { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ } الذي رباه بين الخوف والرجاء وأنواع العناء والعطاء ؛ لكمال اصطباره ووقاره بما جرى عليه من مقتضيات ربه ، قائلاً حين اضطراره إلى الالتجاء نحو ربه والتضرع إليه : { أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ ص : 41 ] أي : نفخ فيَّ ، وأحاط نفخه جميع أجزاء بدني ؛ بحيث لم يبقَ فيَّ عضو لم يلحقه ضرر من شؤم نفخه ، وعذاب شديد مؤلم مزعج ، فاضطرني هجوم الأعداء والعناء وتزول أنواع المحن والبلاء إلى بث الشكوى نحوك يا مولاي ، فأنا عبدك ، وعلى عهدك ما استطعت ، ما توفيقي إلا بك وثقتي إلا عليك ، فارحمني بسعة رحمتك ؛ إذ لا راحم سواك ولا مغيث غيرك . وبعدما استغاث إلينا مخلصاً مضطراً راجياً من الإجابة والقبول ، أدركته العناية ، وشملته الرحمة والكرامة من لدنَّا ، حيث قلنا له ملهمين أياه ، مستقبلين إجابته : { ٱرْكُضْ } واضرب { بِرِجْلِكَ } على الأرض ، فركض امتثالاً للأمر الوجوبي فنبعت عين جارية ، ثم قلنا له تعليماً وتنبيهاً : { هَـٰذَا } الماء { مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ } يبرد ويبرأ ظاهر جسدك من الحرارات العارضة لبدنك من شؤم نفس عدوك الذي خلق من عنصر النار { وَشَرَابٌ } [ ص : 42 ] شافٍ لباطنك من الذي أعرض عليك من انحراف مزاجك بسبب خروج أخلاطك عن الاعتدال الفطري بشؤوم نفخه . وبعدما سمع أيوب ما سمع اغتسل منه ، فشرب وبرأ من المرض ظاهراً وباطناً { وَ } بعدما حصل له الصحة والنظافة منَّا إياه ، سقط نحونا ساجداً حامداً شاكراً ، مناجياً معنا ، مخلصاً متضرعاً { وَهَبْنَا لَهُ } تتميماً لكمال لطفنا وعنايتنا معه { أَهْلَهُ } أي : جميع من مات من أولاده بسقوط السقف عليهم { وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } أي : وهبنا له إحساناً عليه وامتناناً منَّا مثل أهله مع أهله ، وإنما فعلنا معه ذلك بعدما ابتليناه واخبترناه ؛ ليكون { رَحْمَةً مِّنَّا } إياه { وَذِكْرَىٰ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [ ص : 43 ] الذين يتذكرون بقصته ، ويتخلقون بأخلاقه ؛ ليفوزوا بما فاز . وبعدما صححناه من الأسقام ووهبنا له أهله وماله ، وزدنا عليه مثله تفضلاً منَّا إياه ، أمرناه ثانياً تعليماً له بأن يتدارك قسمه وحلفه الذي حلف في مرضه ، حين ذهبت امرأته ليا أو رحمة بنت إفرائيم بن يوسف لحاجة ، فأبطأت ، فحلف : إن برئت عن مرضي لأضربنك مائة جلدة . { وَ } قلنا له تعليماً : { خُذْ بِيَدِكَ } لحلفط { ضِغْثاً } حزمة مشتملة على مائة من إغصان صغار ، فاضرب به - أي : بالضغث - امرأتك بحيث وصل أثر جميع ما في الحزمة من الأغصان إليها { فَٱضْرِب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } حينئذ في حلفك ، فحللنا يمينك بها ، عناية منَّا لك ولأمرأتك ، فصارت رخصة باقية في حدود الشرائع إلى الآن . وكيف لا نزيل شكواه ، ولا نحسن إليه ، ولا نجزيه أحسن الجزاء ؟ { إِنَّا وَجَدْنَاهُ } عبداً { صَابِراً } لجميع ما هجم عليه من أنواع البلاء المتعلقة بماله وأولاده وبدنه { نِّعْمَ ٱلْعَبْدُ } عبدنا أيوب الصبور المسلِّم المفوض بلا جزع وتزعزع ، فكيف يجزع ويتزعزع { إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 44 ] رجَّاع الينا ، متشمر نحونا في عموم أوقاته وحالاته ، طلباً للفناء فينا والبقاء ببقائنا . روي أن أيوب عليه السلام كان متمولاً منعماً عظيماً ، وكان له جميع أنواع متاع الدنيا ، ومع ذلك شاكراً راضياً منفقاً في سبيل الله لفقراء الله طلباً لمرضاته ، وبعدما بالغ في شكر نعم الله وأداء حقوق كرمه ، حسد عليه إبليس فقال مناجياً إلى الله : نظرت في عبدك أيوب فوجدته عبداً أنعمت عليه فشكر لك ، ولو ابتليته بالفاقة لم يكن كذلك ، فقال سبحانه : " سلطتك يا ملعون علا ماله " فقال : إبليس لعفاريت : أيكم أشد وأقوى على إتلاف ماله ؟ فقام أحدهم وتحول إعصاراً من نار فأحرق إبله ، وجميع من كان معها من الراعي ، وصاح أحدهم منهم على أغنامه ورعاتها فهلكوا بالمرة ، وآخر جاء بريح عاصفة على حرثه فنسفت ولم يبقَ منهما شيء . فتمثل إبليس بصورة راعٍ ، وآخر من أعوانه بصورة حارث ، وأتياه وهو يصلي وقالا : أقبلت نار فغشيت إبلك فأحرقتها ومن معها ، وصاح على غنمك شيطان فهلكت بالمرة ، وهبت على حرثك ريح فنسفت وصار كأن لم يكن ، فقال أيوب : الحمد لله إنها مال الله أعارينها وهو أولى بها ، وقد كنت قدماً قد وطنت نفسي ومالي على القضاء . وبعدما آيس إبليس من هذا الطريق قال : إلهي إنك متعته بأولاد فشكر لك لأجلها ، فهل أنت مسلطي على أولاده ؛ إذ هي من أعظم المصيبات لا يصبر عليها أحد من الناس ؟ فقال : " نعم " ، فأتاهم اللعين وهم مجتمعون في قصر عند معلم أيب ، فلم يزل يزلزلها ويحركها حتى أسقطها عليهم فأهلكهم بالمرةن فتمثل اللعين بصورة معلهم فأتاه وهو صريخ جزوع ، فقال : لو رأيت بنيك كيف عذبوا ، ونكسوا إلىحيث سال دمهم ودماغهم وشقت بطونهم وتناثرت أمعاؤهم ، فقال أيوب عليه السلام متأوهاً : ليت أمي لم تلدني ، ثم أفاق واستغفر عن ضجرته سريعاً . ورجع خاسئاً وقنط اللعني من هذا أيضاً ، وقال : إليه إنما صبر أيوب عليه السلام على إهلاك أمواله وأولاده ، ولازم توجهه نحوك ؛ لأنك متعته بصحة البدن وسلامة الجسد ، وهل أنت مسلطي على جسده ؟ قال سبحانه : " سلطتك على غير لسانه وقلبه ، فأتاه فوجده ساجداً ، فنفخ في منخره نفخة اشتغل منها جسده ، فخرج من قرنه إلى قدمه ثآليل مثل أليات الغنم ، فوقعت فيه حكة فلم يزل يحكه حتى قرح جسده وأنتن لحمه ، فأخرجه أهل القرية منها ، ورفضوه من كان من أرحامه سوى امرأته " رحمة " فتمثل لها إبليس في صورة رجل ، فقال لها : أين بعلك ؟ هو ذلك يحك قروحه وتردد الديدان في جسده . فلما سمعتها خيلت أنها كلمة جزع صدرت منه ، فذكر لها تغريراً ما كان فيه من النعيم ثم أتى بسخلة ، فقال لها : ادفعيها إلى أيوب عليه السلام ليذبح لي حتى يبرأ من السقم فجاءت مع السخلة تصرخ يا أيوب إلى متى يعذبك ربك أين الأموالم والأولاد والوجه الحسن ؟ ! اذبح هذه واسترح ، فقال أيوب : أتاك عدو الله فنفخ فيك ، أرأيت ما تبكين عليه من المال والولد الصحة من أعطانيه ؟ قالت : الله ، قال : فكم متعنا به ؟ قالت : ثمانين سنة ، قال : فمنذ كم ابتلينا ؟ قالت : سبع سنين وأشهراً ، قال : ويلك ما أنصفت لنصبرن في هذا البلاء ثمانين سنة كما لنا في الرخاء ، أمَا تستحين من الله ؟ ! أمرتني أن أذبح لعدو الله ، لا أذوق شيئاً مما تأتيني به بعد اليوم ، اعزلي عني ودعي معي ربي . فلما ذهبت امرأته ورأى أيوب ليسي عنده طعام ولا شراب ولا صديق ، اضطر إلى بث الشكوى مع المولى فسقط ساجداً ، وقال مناجياً صارخاً ضارعاً : { أَنِّي مَسَّنِيَ ٱلشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } [ ص : 41 ] وسمع حنيئذ من الهاتف : ارفع رأسك فقد استجبت لك ، فرفع رأسه وأوحي إليه من قبل ربه { ٱرْكُضْ بِرِجْلِكَ هَـٰذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } [ ص : 42 ] . { وَٱذْكُرْ } يا أكمل الرسل { عِبَادَنَآ } الذين هم أجدادك وأسلافك { إِبْرَاهِيمَ وَ } ابنه { إِسْحَاقَ وَ } سبطه { يَعْقُوبَ } واذكر من شمائلهم الجميلة وخصائلهم الحميدة ؛ ليتعظ من سماعها ذوو الاعتبار من المؤمنين ، ويقتدون بمآثرهم ؛ لأنهم كانوا { أُوْلِي ٱلأَيْدِي وَٱلأَبْصَارِ } [ ص : 45 ] أي : ذوي القوة في الطاعة والبصيرة في مراسم الدين ومعالم اليقين ، ولهم التمكن في مقر التوحيد ، والوصول إلى درجات التجريد والتفريد . ولا بدَّ للذين يلونهم أن يقتدوا بهم ، ويسترشدوا من أخلاقهم وآثارهم ، ويتصفوا بأوصافهم ؛ كي يفوزوا بمعارفهم ، وينكشفوا بمكاشفتهم ومشاهدتهم ؛ لأنهم قدوة أصحاب التوحيد ، وزبدة أرباب الشهود . وكيف لا { إِنَّآ } من مقام عظيم جودنا معهم { أَخْلَصْنَاهُمْ } وجعلناهم مخصوصين { بِخَالِصَةٍ } أي : بخصلة خالصة صافية عن كدر التعلقات الناسوتية ، خالية عن شوب مقتضيات القوى الشهوية البشرية ، العائقة عن التحقق بمرتبة اللاهوتية ألا وهي { ذِكْرَى ٱلدَّارِ } [ ص : 46 ] الدار الآخرة التي هي مقام التمكن في التوحيد والانكشاف بسرائر الوحدة الذاتية ، وسريانها في ملابس الأسماء والصفات المقتضية للتعدد والتكثر . { وَ } بالجملة : { إِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ ٱلْمُصْطَفَيْنَ } المنتخبين لحمل أعباء الرسالة { ٱلأَخْيَارِ } [ ص : 47 ] المنتخبين الصالحين للاتصاف بسرائر التوحيد واليقين ؟ أي : أولئك الأنبياء العظام الساعين لطلب الخير في طريق الدين ومرتبة اليقين . { وَٱذْكُرْ } يا أكمل الرسل جدك { إِسْمَاعِيلَ } ابن إبراهيم الخليل ، وتذكر تصبره ورجوعه ورسوخه في مقام التفويض والتسليم ، راضياً بما جرى عليه من متقضيات ربه ، مع أ ، ه لم يبلغ الحلم { وَٱلْيَسَعَ } هو ابن أخطوب ، استخلفه إلياس النبي على بني إسرائيل ، ثم استنبئ { وَذَا ٱلْكِفْلِ } هو ابن عم اليسع المذكور ، أو بشر بن أيوب ، قيل : إنما لُقب به ؛ لأنه فر إليه مائة من بني إسرائيل ، فآواهم وكفلهم { وَكُلٌّ مِّنَ ٱلأَخْيَارِ } [ ص : 48 ] أي : كل واحد من الأنبياء المذكورين معدود من الأخيار الأبرار ، مثبت في حضرة علمنا ولوح قضائنا مع زمرتهم .