Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 1-9)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ إِنَّا } من مقام عظيم جودنا { فَتَحْنَا لَكَ } يا أكمل الرسل { فَتْحاً مُّبِيناً } [ الفتح : 1 ] ظاهراً عظيماً بأن ألهمنا عليك ، وأوضحنا لك طريق الخروج من مضيق الإمكان إلى فضاء الوجوب ، ويسرنا لك الترقي والعروج ومن حضيض الجهل وأودية الضلال على ذروة العلم وأوج الوصال . وإنما فتحنا لك ما فتحنا { لِّيَغْفِرَ لَكَ } ويستر عليك { ٱللَّهُ } المحيط بعموم أحوالك وشئونك { مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ } الذي عرض عليك بمقتضى بشريتك وإمكانك قبل انكشافك بوحدة الحق { وَمَا تَأَخَّرَ } بعده من تلويناتك في بعض الأحوال المسرة والمؤلمة حسب النشأة البشرية { وَ } بالجملة : { يُتِمَّ نِعْمَتَهُ } الموعودة لك حسب استعدادك { عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } [ الفتح : 2 ] موصلاً على مقصد التوحيد الذاتي . { وَ } بالجملة : { يَنصُرَكَ ٱللَّهُ } الوكيل الكفيل لك في عروجك وترقيك عن بقعة الإمكان { نَصْراً عَزِيزاً } [ الفتح : 3 ] منيعاً غالباً حيث لم يغلب عليك بعد انكشافك بسرائر التوحيد جنود أمارتك وشياطين بشريتك مطلقاً . وكيف لا ينصرك ربك ؟ { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ } أي : الطمأنينة والوقار { فِي قُلُوبِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } مقتبسين من مشكاة نبوتك نور الولاية اللامعة المتشعشعة من شمس الذات { لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً } بهدايتك وإرشادك { مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ } بأنك على الحق المبين { وَ } كيف لا يزدادون إيماناً يا أكمل الرسل ، مع أنك فزت بالفوز العظيم من الوحدة الذاتية وصرت مصوناً محفوظاً في كنف الحق وجواره ، منصوراً على عموم أعدائه ؛ إذ { لِلَّهِ } وفي حيطة قدرته الغالبة { جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ } أي : مدبرات الأسماء والصفات { وَ } جنود { ٱلأَرْضِ } أي : قوابل الأركان والطبائع التي هي حوامل آثار العلويات المأثورات منها { وَ } بالجملة : { كَانَ ٱللَّهُ } المطلع لعموم ما في استعدادات عباده وقابليتهم { عَلِيماً } بحوائجهم لدى الحاجة { حَكِيماً } [ الفتح : 4 ] في تدبيرات أمورهم على وفق الحكمة المتقنة والمصالحة المستحكمة . كل ذلك { لِّيُدْخِلَ } سبحانه بمقتضى سعة رحمته وجوده { ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } من أمة حبيبه وصفيِّه المستخلف منه سبحانه في بريته وعموم خليقته { جَنَّاتٍ } منتزهات العلم والعين والحق { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } أي : جداول المعارف والحقائق المترشحة من بحر الذات { خَالِدِينَ فِيهَا } بلا تلوين وتحويل { وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي : يمحو عن عيون بصائرهم أشباح أنانيتهم ، وأمواج هوياتهم المستحدثة على بحر الوجود ، ومن نكبات التعينات وحرص الإضافات { وَكَانَ ذَلِكَ } الإدخال والإيصال والتكفير { عِندَ ٱللَّهِ } المتعزز برداء العظمة والكبرياء { فَوْزاً عَظِيماً } [ الفتح : 5 ] وأجراً جميلاً ، لا فوز أعظم منه وأعلى . { وَ } كما يدخل سبحانه المؤمنين والمؤمنات في روضات الجنات تفضلاً وإحساناً { يُعَذِّبَ } أيضاً { ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ } وهم الذي أخرجوا أعناقهم عن عروة العبودية بمتابعة الأهوية الفاسدة والآراء الباطلة ، وأظهروا الإيمان على طرف اللسان بلا إخلاص وإذعان { وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ } وهم الذين جحدوا في الله الواحد الأحد الصمد ، المنزَّه عن الشرك مطلقاً ، وأثبتوا له شركاء ظلماً وزوراً { ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ } المستقل بالألوهية والربوبية { ظَنَّ ٱلسَّوْءِ } وهو أنه لا ينصر أولياءه الباذلين مهجهم في طريق توحيدهم ، بل تدور { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ } ويحيط بهم وَبَال ما تظنونه على أولياء الله ، كيف { وَغَضِبَ ٱللَّهُ } المطلع على ما في ضمائرهم { عَلَيْهِمْ } بل { وَلَعَنَهُمْ } أي : طردهم عن ساحة عز قبوله { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ } الطرد والحرمان { وَسَآءَتْ } لهم جهنم { مَصِيراً } [ الفتح : 6 ] أي : مقراً ومنقلباً ومرجعاً ومآباً . { وَ } كيف لا يلعنهم سبحانه ولا يغضب عليهم مع أنهم يظنون بالله ظن السوء ، ويعتقدونه عاجزاً عن نصر أوليائه ، مع أنه { لِلَّهِ } وفي حيطة قدرته وتحت تصرفه { جُنُودُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } وله أن يأمرهم ما يشاء ، ويغلبهم على من يريد إرادةً واختياراً { وَ } الحال أنه قد { كَانَ ٱللَّهُ } المتوحد بالعظمة والكبرياء { عَزِيزاً } غالباً على عموم مراداته ومقدرواته بلا معاونة إحدٍ ومظاهرته { حَكِيماً } [ الفتح : 7 ] في أفعاله المتقنة ، يدبرها بالاستقلال وفق حكمته البالغة . ثم قال سبحانه في مقام الامتنان لحبيبه صلى الله عليه وسلم ؛ إظهاراً لكمال قدرته الشاملة وحكمته الكاملة : { إِنَّآ } من مقام عظيم جودنا { أَرْسَلْنَٰكَ } يا أكمل الرسل { شَٰهِداً } على عموم عبادنا ، يشهد لهم عندنا عموم ما صدر عنهم من الصالحات الجالبة لأنواع المثوبات والكرامات { وَمُبَشِّراً } بهم ، يبشرهم برفع الدرجات والفوز بالسعادات { وَنَذِيراً } [ الفتح : 8 ] ينذرهم عن الدركات العائقة عن الوصول إلى جنة الذات التي دونها تجرى بحر الحياة . كل ذلك { لِّتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ } وتذعنوا بتوحيده { وَرَسُولِهِ } أي : تصدقوا برسوله الذي أرسل إليهم من عنده سبحانه { وَ } بعد اتصافهم بكمال الإيمان والإذعان { تُعَزِّرُوهُ } سبحانه ؛ أي : تعتقدوا أن الحول والقوة بالله جميعاً ، لا حول ولا قوة لسواه مطلقاً { وَ } بعدما اعتقدتم كذلكَ { تُوَقِّرُوهُ } وتعظموه حق تعظيمه { وَ } بعدما وقرتموه وعظمتموه كما ينبغي ويليق بشأنه { تُسَبِّحُوهُ } وتنزهوه عما لا يليق بجنابه { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفتح : 9 ] أي : في عموم أوقاتهم وحالاتهم ؛ إذ لا يتأتى منهم بالنسبة إلى جنابه سبحانه إلا التفويض والتعظيم والتنزيه والتقديس ، وإلا فما للعباد ورب الأرباب أن يتكلموا عن ذاته وصفاته ، سوى أن يخوضوا في لجة بحر توحيده ، ويتيهوا في بيداء ألوهيته حتى يفنوا في فضاء صمديته ؛ إذ لا إله إلا هو ولا شيء سواه { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] .