Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 48, Ayat: 24-29)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَ } كيف تبدل سنة الله وتغير حكمته مع أنه { هُوَ } القادر المقتدر { ٱلَّذِي كَفَّ } وضع { أَيْدِيَهُمْ } أي : أيدي كفار مكة { عَنكُمْ } حين استيلاءهم عليكم { وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم } حين غلبتم عليهم { بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ } وأظهركم { عَلَيْهِمْ } وذلك أن عكرمة بن أبي جهل خرج مع خمسمائة إلى الحديبة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على جند ، فهزمهم حتى أدخلهم حيطان مطة ، ثم قال : { وَ } بالجملة : { كَانَ ٱللَّهُ } العليم الحكيم { بِمَا تَعْمَلُونَ } من خير وشر { بَصِيراً } [ الفتح : 24 ] خبيراً ، لا يعزب عنه شيء مما جرى عليكم ، يجازيكم على مقتضى بصارته وخبرته . وكيف لا يجازي الكفرة سبحانه بأسوء الجزاء ؟ إذ { هُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالله ظلماً وعدواناً { وَ } لم يقتصروا على الكفر فقط ، بل { صَدُّوكُمْ } أي : حصوركم وصرفوكم { عَنِ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } عام الحديبية { وَ } الحال أنه قد صار { ٱلْهَدْيَ } أي : الذبائح والقرابين التي ساقها رسول الله { مَعْكُوفاً } محبوساً قريباً أن { } يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أي : مذبحة الذي عينه الله لذبح الضحايا ، وهو المنى . { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ } في خلالهم ، لم يكف سبحانه أيديكم عنهم ، بل نصركم عليهم واستأصلتموهم بالمرة ، لكن لما كان بينهم من المؤمنين والمؤمنات كف سبحانه أيديكم عنهم مخافة { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ } أي : المؤمنين المخلوطين بهم ، ولم يميزوهم من الكفار { أَن تَطَئُوهُمْ } تدوسوهم { فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ } أي : من أجل المؤمنين المخلوطين بالكافرين وجهلهم { مَّعَرَّةٌ } أي : مضرة وكروه من لزوم دية وكفارة ، وإثم عظيم وتعيير شديد ، وغير ذلك من المنكرات مع أنه إنما صدر عنكم الوطاءة والدوس لو صدر { بِغَيْرِ عِلْمٍ } وخبرة ، وإنما كف أيديكم عنهم حين أظفركم عليهم { لِّيُدْخِلَ ٱللَّهُ } المطلع بما في استعدادات عباده من الإيمان والكفر { فِي رَحْمَتِهِ } التي هي التوحيد والإسلام { مَن يَشَآءُ } منهم حتى { لَوْ تَزَيَّلُواْ } وتفرقوا أي : المؤمنين من الكافرين { لَعَذَّبْنَا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الفتح : 25 ] في غاية الإيلام من السبي والجلاء وأنواع المصيبة والبلاء . اذكر يا أكمل الرسل إذ { إِذْ جَعَلَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْحَمِيَّةَ } الأنفة والغيرة لا على وجه الحق بل { حَمِيَّةَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ } وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل الحديبية ، فهمّ بقتال أهل مكة ، بعثوا سهيل بن عمر وحويطب بن عبد العزى ومكرز بن حفص ؛ ليرجع من عامه ، وتُخلى له مكة من العام القابل ثلاثة أيام . " فقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : " اكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة " ، فقالوا : ما نعرف هذا ، اكتب : بسمك اللهم ، هذا ما صالح محمد بن عبد الله . فقال صلى الله عليه وسلم : " اكتب ما يريدون " فكتب ، فهمّ المؤمنون أن يبطشوا { فَأَنزَلَ ٱللَّهُ سَكِينَتَهُ } ووقاره { عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ } إذ هم أحقاء بالطمأنينة والوقار وكظم الغيظ وتوطين النفس بالمكاره { وَ } بالجملة { أَلْزَمَهُمْ } سبحانه { كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ } واختار لهم صون النفس عن التهور والغلظة { وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا } من غيرها { وَأَهْلَهَا } أي : كانوا أهلاً لحفظها ورعايتها { وَ } بالجملة : { كَانَ ٱللَّهُ } المراقب لعموم أحوالهم { بِكُلِّ شَيْءٍ } يليق بهم وينبغي لهم { عَلِيماً } [ الفتح : 26 ] يوفقهم عليه ويسهل عليهم الاتصاف به . ثم لما رأى صلى الله عليه وسلم في منامه أنه وأصحابه دخلوا مكة أمنين ، وقد حلقوا وقصروا ، فقص صلى الله عليه وسلم الرؤيا على أصحابه ، ففرحوا وظنوا أن ذلك في عامهم هذا ، فلما تأخر بالصلح والمعاهدة ، قال بعضهم : والله ما حلقنا وما قصرنا وما رأينا البيت ، فنزلت : { لَّقَدْ صَدَقَ ٱللَّهُ رَسُولَهُ ٱلرُّءْيَا } أي : جعله سبحانه صادقاً في ما رأة ملتبساً { بِٱلْحَقِّ } والله أيها المؤمنون { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَآءَ ٱللَّهُ آمِنِينَ } من العدو ؛ إذ ما أريناه ما أريناه إلا بالحق { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ } على الوجه المتعارف { وَمُقَصِّرِينَ } كما هو عادة الحجاج يحلق بعضهم ويقصر بعضهم ، وبالجملة : { لاَ تَخَافُونَ } بعد ذلك ؛ إذ الله معكم { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ } من أنفسكم ، ولا تستعجلوا إلى الفتح ؛ إذ هو مرهون بوقته { فَجَعَلَ } لكم { مِن دُونِ ذَلِكَ } أي : فتح مكة { فَتْحاً قَرِيباً } [ الفتح : 27 ] هو فتح خيبر ؛ ليطمئن به قلوبكم إلى أن يتيسر لكم الفتح الموعود الذي أخبر به نبيكم الصادق المصدوق . وكيف لا يصدق سبحانه مع أنه { هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ } ملتبساً { بِٱلْهُدَىٰ } والإرشاد إلى سبيل توحيده { وَدِينِ ٱلْحَقِّ } الفاروق بين الباطل والضلال ، ووعد له { لِيُظْهِرَهُ } أي : دينه { عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ } أي : جنس الأديان النازلة من عنده بأن نسخ الجميع به { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ شَهِيداً } [ الفتح : 28 ] على صدقه في رؤياه وفي دعوته ونبوته ، وإظهار أنواع المعجزة بيده . إنه قال سبحانه : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ ٱللَّهِ } حق ، مرسل من عنده ، مبعوث إلى كافة البرايا ؛ ليهديهم إلى توحيده الذاتي { وَٱلَّذِينَ مَعَهُ } من المؤمنين له ، المصدقين لدعوته ، المتعطشين بزلال مشربه { أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلْكُفَّارِ } الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة هوية الحق الظاهر في الآفاق والأنفس ، يدفعون مؤمنة كثراتهم الوهمية بترويج الحق على الباطل ، وإعلاء كلمة التوحيد ، وتقويم الدين القويم وإظهاره على سائر الأديان { رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } متواضعون مع أهل الحق وأرباب التوحيد ؛ لذلك { تَرَاهُمْ } في عموم أوقاتهم { رُكَّعاً سُجَّداً } أي : راكعين ، ساجدين ، متذللين ، خاضعين ، خاشعين ، بلا رعونة ولا رياء ولا سمعة ولا هوىً ، بل { يَبْتَغُونَ } ويطلبون بتذللهم هذا { فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً } منه سبحانه ، وبالجملة : { سِيمَاهُمْ } أي : سمتهم وعلاماتهم الدالة على نجابة طينتهم وكرامة فطرتهم ظاهرة { فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ ٱلسُّجُودِ } وكثرة التذلل والخشوع نحو الحق { ذَلِكَ } المذكور من أوصافهم { مَثَلُهُمْ } وصفتهم العجيبة المذكورة { فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ } هكذا أيضاً { فِي ٱلإِنجِيلِ } . وبالجملة : مثلهم في بدء ظهورهم وخروجهم أولاً في غاية الضعف والنحافة ، واشتدادهم وغلظهم على الأعداء ، ووفور رأفتهم ورحمتهم على الأولياء ثانياً { كَزَرْعٍ } أي : كمثل زرع وقع على الأرض ضعيفاً وبرز منها نحيفاً ، ثم ظهر عليها ونبت قوياً يوماً فيوماً إلى حيث { أَخْرَجَ شَطْأَهُ } أي : أفراخه وأغصانه دقيقاً دقيقاً { فَآزَرَهُ } قومه بالمعاونة { فَٱسْتَغْلَظَ } وعاد غليظاً بعدما رباه وأحسن تربيته { فَٱسْتَوَىٰ } واستقام بعد ذلك { عَلَىٰ سُوقِهِ } أي : قصبه وساقه على وجه { يُعْجِبُ ٱلزُّرَّاعَ } عند رؤيته بكمال كثافته وغلظته ونضارته ولطافته . وإنما رباهم سبحانه وقواهم على أبلغ وجه وأحسنه { لِيَغِيظَ } ويتحسر { بِهِمُ ٱلْكُفَّارَ } المخالفون المخاصمون لهم من كمال تشددهم وترقبهم ، وبالجملة : { وَعَدَ ٱللَّهُ } المطلع على ما في استعداداتهم عباده من الإخلاص والتفويض { ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بكمال المحبة والتسليم { وَ } مع ذلك { عَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } المقربة لهم إلى الله { مِنْهُم } أي : من جنسهم { مَّغْفِرَةً } ستراً ومحواً لأنانياتهم الباطلة { وَأَجْراً عَظِيماً } [ الفتح : 29 ] هو الفوز بشرف اللقاء ، والوصول إلى سدرة المنتهى ، وليس وراء الله مرمى . رزقنا الله الوصول إليه ، والوقوف بين يديه . خاتمة السورة عليك أيها المحمدي المتوجه نحو توحيد الذات - مكنك الله في مقعد الصدق ، ووطنك في مقر التوحيد - أن تعتدل في عموم أوصافك ، وأخلاقك وأعمالك ، مجتنباً عن كلا طرفي الإفراط والتفريط ، معرضاً عن قصور مطلق التخمين والتقليد ، مقتصداً في جميع أطوارك وشئونك ، مقتفياً في جميع أخلاقكم وأطوارك أثر نبيك الهادي إلى سواء السبيل حتى ينفتخ لك أبواب عموم الكرامات والسعادات ، وينغلق دونك مداخل أنواع المكروهات والمنكرات ، وإياك إياك أن تختلط مع أهل الغفلة وأصحاب الجهالات المترددين في أودية الغي والضلالات ؛ ليتيسر لك التحقق إلى فضائل الوصال ؟ جعلنا الله من زمرة أوليائه المقتصدين ، الذين ثبتوا على الصراط المستقيم .