Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 55, Ayat: 1-16)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ٱلرَّحْمَـٰنُ } [ الرحمن : 1 ] أي : الذات المحيطة بعموم الأعيان بالرحمة العامة الواسعة ، وبمقتضى سعة رحمته ، ووفور لفطه ورأفته . { عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } [ الرحمن : 2 ] لنوع الإنسان ، ونزّل على خاصة خلقه ، ليكون مبيناً لهم سبيل الكشف والعيان ، ونهج التوحيد والعرفان . مع أنه لما { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } [ الرحمن : 3 ] سبحانه ؛ لأجل هذا الشأن البديع البرهان ، ولهذه الحكمة والمصلحة أيضاً بعينه . { عَلَّمَهُ ٱلبَيَانَ } [ الرحمن : 4 ] أي : التنطق والتكلم بلغات شتَّى ، وعبارات لا تُحصى ؛ ليستفيد من منطوقات الألفاظ ما هو معناه ، ويتفطن منها إلى ما هو مغزاها ومرماها ، وغاية قصواها ، ألا وهي المعارف والحقائق ، والحكم والأسرار الإلهية المودعة المكنونة في مطاوي حروف المصاحف ، والكلمات الحاصلة من مقاطع الأصوات المتكونة من لوازم الحياة الحقيقية المترتبة على النفسات الرحمانية ، والنفثات اللاهوتية الثابتة للوجود المطق حسب تجليات الذات الإلهية ، وعلى مقتضى الأسماء والصفات الذاتية الكامنة فيها ، المتجلية عليها بمقتضى الشئون والكمالات الغير المتكررة إلى ما يتناهى أزلاً وأبداً ؛ ليظهر للإنسان سر الظهور والبطون ، والغيب والشهادة الواردة على الوحدة الذاتية الإلهية . ولهذه المصلحة أيضاً ظهر في العلويات { ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ } [ الرحمن : 5 ] أي : يجريان ويدوران بحساب مقدر من عنده سبحانه ، معلوم في حضرة علمه ؛ ليكونا دليلين شاهدين على ظهور مرتبتي النبوة والولاية المقتبسة من مشكاة النبوة ، المتفرغة على العدالة الذاتية الإلهية . { وَ } أيضاً أظهر في السفليات لتلك المصلحة العليَّة { ٱلنَّجْمُ } أي : النبات الذي لا ساق له { وَٱلشَّجَرُ } وهو الذي له ساق { يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] يخضعان ويتذللان له سبحانه دائماً من كمال الإطاعة والانقياد . { وَ } بالجملة : { ٱلسَّمَآءَ } أي : عالم الأسباب والأقدار { رَفَعَهَا } في أعلى المكان والمكانة { وَوَضَعَ } فيها { ٱلْمِيزَانَ } [ الرحمن : 7 ] المعتدل المبنئ عن القسطاس المستقيم الإلهي الواقع بين الأسماء والصفات الذاتية ، وعين المقادير والآجال المقدرة لجربها ، ورتبها على دورها وانقلاباتها الواقعة فيها على وفق الحكمة المترتبة على العدالة الإلهية . وإنما رتبها على متقضى الحكمة والعدالة { أَلاَّ تَطْغَوْاْ } أي : لئلا تعتدوا وتتجاوزوا أيها المجبولون لمصلحة التكليف والعرفان ، على مقتضى الوحي الإلهي المترتب على الحكمة البالغة المتقنة في الأرض { فِي ٱلْمِيزَانِ } [ الرحمن : 8 ] الموضوع بمقتضاها ، ألا وهي الشرع الشريف . { وَ } بعدما سمعتم حال العلويات والسلفليات ، وما فيهما من الموازين المعتدلة الموضوعة بالوضع الإلهي { أَقِيمُواْ } أيها المكلفون فيما بينكم { ٱلْوَزْنَ } واعتدلوه { بِٱلْقِسْطِ } والإنصاف { وَلاَ تُخْسِرُواْ } ولا تنقصوا { ٱلْمِيزَانَ } [ الرحمن : 9 ] إذ هو موضع على العدل السوي . { وَ } اعلموا أن { ٱلأَرْضَ } إنما { وَضَعَهَا } ومهدها سبحانه { لِلأَنَامِ } [ الرحمن : 10 ] ليعتدلوا عليها ، ويستقيموا عموم أخلاقهم وأطوارهم فيها ، حتى يستعدوا لأن يفيض عليهم طلائع سلطان الكشف والشهود ، فيفوزوا بمقر التوحيد ، ويتمكنوا في مقعد الصدق والتفريد . لذلك أعدَّ لهم سبحانه تفضلاً عليهم وتكريماً : { فِيهَا فَاكِهَةٌ } كثيرة يتفكهون بها ، من أنواع الفواكه تقويماً لأمزجتهم ، وتقويةً لها { وَ } لا سيما { ٱلنَّخْلُ } التي هي { ذَاتُ ٱلأَكْمَامِ } [ الرحمن : 11 ] والأوعية المشتملة على التفكه والتقوت لسائر الأغراض الحاصلة منها . { وَٱلْحَبُّ ذُو ٱلْعَصْفِ } " والحبُّ " أي : وكذا اعدَّ لهم فيها جنس الحبوب التي يتقوت بها نوع الإنسان منها " ذُو العصف " : ذا العصف ؛ أي : التين والقشور ؛ إذ هو محفوظ فيها ، مربي معها إلى أن يستوي وينضج ، فيتقوت بحبّه الإنسانُ ، وبعصفه المواضي { وَ } كذا ظهر لهم فيها بمقتضى جوده { ٱلرَّيْحَانُ } [ الرحمن : 12 ] أي : جنس الرياحين المشمومة المقوية لدماغ الإنسان ، المصفية له عن الروائح الخبيثة ، والنفحات الكريهة . ثمَّ لما عدَّ سبحانه نبذاً من نعمه الشاملة على عموم الأنام ، خاطب المكلفين منهم على سبيل الامتنان ، وهم الثقلان المجبولان على فطرة التوحيد ، واستعداد الإيمان والعرفان ، فقال : { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا } ونعماء موجدكما ومربيكما { تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] أيها المغموران في نعمه ، المستغرقان في بحار جوده وكرمه . وكيف يسع لكما الكفران لنعم الله ، والطغيان عليه سبحانه ، مع أنه { خَلَقَ ٱلإِنسَانَ } المصور بصورة الرحمن ، وقد خلقه { مِن صَلْصَالٍ } أي : طين يابس له صلصلة وصوت { كَٱلْفَخَّارِ } [ الرحمن : 14 ] أي : الخزف المتخذ من التراب ، الموقد بالنار ، ومع دناءة منشئة ومادته ، رفعه إلى حيث جعله خليفةً للحق ، نائباً عنه ، ومرآة مجلوة قابلة لفيضان كمالات أسمائه وصفاته . { وَخَلَقَ ٱلْجَآنَّ } أي : الجن ، وقدر وجودهم { مِن مَّارِجٍ } من دخال صاف حاصل { مِّن نَّارٍ } [ الرحمن : 15 ] موقدة ملتهبة مشتعلة على وجه الحركة والاضطراب ، ومع رداءة مادتها وكثافتها ، جعله شبيهاً بالملأ الأعلى ، متصفاً بها في كمال اللطافة والصفاء إلى حيث لا يرى أشبحهم كالملائكة . وإذ كان شأن الحق معكما هذكا { فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 16 ] وتنكران أيها الثقلان .