Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 59, Ayat: 21-24)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثمَّ وبَّخ سبحانه نوع الإنسان المجبول على فطرة الإيمان والعرفان ، وقرعهم بغفلتهم عن القرآن المرشد لهم إلى طريق التوحيد والإيقان بقوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ } المنزل عليكم أيها التائهون في تيه الغفلة والنسيان { عَلَىٰ جَبَلٍ } من الجبال العظام ، والله { لَّرَأَيْتَهُ } أيها المعتبر الرائي ؛ أي : الجبل { خَاشِعاً } خاضعاً { مُّتَصَدِّعاً } متشققاً { مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } القادر الغيور ؛ يعني : من تأثير الوعيدات الهائلة ، والإنذارات الشديدة الواقعة فيه على أهل التكليف ، مع عدم قابليته على التأثير ، وأنتم أيها الهلكى الحمقى ، الهالكون التائهون في تيه الجهل والضلال ، مع كمال قابليتكم واستعدادكم لا تتأثرون من وعيداته البليغة ، وإنذاراته الشديدة . ثمَّ قال سبحانه : { وَتِلْكَ ٱلأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ } الناسين مرتبة العبودية ؛ من كمال البطر { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ الحشر : 21 ] ويتفطنون منها إلى فطرتهم الأصلية المجبولة على التذلل والخشوع ، والانكسار والخضوع ، فيشتغلون بما جُبلوا لأجله من الإتيان بالطاعات ، وأنواع العبادات اللائقة لمرتبة الألوهية والربوبية . وكيف لا تتذللون له سبحانه أيها الحمقى الهالكون ، مع أنه سبحانه { هُوَ ٱللَّهُ } أي : الموجود الحق الحقيق { ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ } ولا موجود في الوجود { إِلاَّ هُوَ } الواحد الأحد الصمد ، المستقل بالألوهية والربوبية { عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } على التفصيل الواقع في الواقع ، بحيث لا يعزب عن حيطة علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، ومع ذلك { هُوَ ٱلرَّحْمَـٰنُ } على عموم الأكوان بإفاضة الوجود عليهم وتربيتهم ، وتدبير مصالحهم في النشأة الأولى { ٱلرَّحِيمُ } [ الحشر : 22 ] لهم ، يوصلهم إلى فضاء وحدته ، وسعة جنته ورحمته في النشأة الأخرى ؟ ! وبالجملة : { هُوَ ٱللَّهُ } المتوحد بالألوهية والربوبية ، المتوحد بالقيومية ، المتفرد بالديمومية { ٱلَّذِي لاَ إِلَـٰهَ } يُعبد بالحق ، ويُرجع إليه في الخطوب { إِلاَّ هُوَ } باستقلاله وصمديته في ذاته ، وقيوميته في ملكه وملكوته بحسب مقتضيات أسمائه الحسنى ، وصفاته العليا ؛ إذ هو { ٱلْمَلِكُ } المتفرد بالحكم والاستيلاء التام ، والسلطنة الغالبة { ٱلْقُدُّوسُ } البالغ في النزاهة إلى أقصى الغاية والنهاية { ٱلسَّلاَمُ } السالم عن مطلق النقائض ، ولوازم الاستكمال ، ولواحق الإمكان { ٱلْمُؤْمِنُ } ذو الأمن والأمان على عموم الأعيان والأكوان { ٱلْمُهَيْمِنُ } المراقب المحافظ على مقتضيات استعدادات عموم الأنام بكمال العدل والإحسان { ٱلْعَزِيزُ } الغالب على عموم مراداته ومقدوراته بالفضل والامتنان { ٱلْجَبَّارُ } على عموم من خرج عن ربقة عبوديته بالإنكار والطغيان { ٱلْمُتَكَبِّرُ } المتعالي عن كل أمر يشينه من العجز والنقصان ، وبالجملة : { سُبْحَانَ ٱللَّهِ } أي : تنزه وتعالى ذاته وشأنه { عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الحشر : 23 ] ويثبتون له المشركون المفرطون علواً كبيراً . كيف يشركون معه غيره أولئك المسرفون ، مع أنه سبحانه { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ } المقصور المنحصر ، المستقل على خلق الأشياء وتقديرها ، وإيجادها وإظهارها من كتم العدم بمقتضى حكمته بالإرادة والاختيار { ٱلْبَارِىءُ } الموجد لها بمقتضى اسمه الرحمن بلا تفاوت ونقصان { ٱلْمُصَوِّرُ } الصور الأشياء وهياكلها وأشكالها على أبلغ نظام وأعجب شأن ، ولا يشغله شأن عن شأن ، بالجملة : { لَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ } التي لا تُعد ولا تُحصى ، يتجلى على مقتضاها في كل آن في شأن ؛ لذلك { يُسَبِّحُ لَهُ } مظاهر { مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } وينزهه على الدوام عن كل ما لا يليق بشأنه ؟ ! { وَ } بالجملة : { هُوَ ٱلْعَزِيزُ } الغالب القادر على عموم ما أحاط به علمه { ٱلْحَكِيمُ } [ الحشر : 24 ] المدبر المقتن على مقتضى علمه وإرادته بلا مدافعة أحد ومظاهرته . جعلنا الله ممن تحقق بوحدة ذاته ، وانكشف بكمالات أسمائه وصفاته . خاتمة السورة عليك أيها السالك المتحقق بمقر التوحيد ، المكشف بوحدة الذات وكمالات الأسماء والصفات الذاتية الإلهية - مكنك الله في مقر عزك بلا تذبذب وتلوين - أن تطالع آثار أسمائه الحسنى ، وصفاته العليا على صفحات الكائنات الغيبية والشهادية ، وتعتبر منها حسب استعدادك ، وقدر قابليتك الموعدة فيك من قِبَل الحق . وإياك إياك أن تنحرف عن جادة العدالة الشرعية التي هي منتخبة عن العدالة الإلهية الواقعة بين مقتضيات أسمائه الذاتية ، وصفاته العليَّة ، فلك أن تطابق عموم أعمالك وأخلاقك وأطوارك عليها ، بحيث لا تهمل شيئاً من دقائقها ؛ إذ بقدر إهمالك من حدودها أحطت عن درجة التوحيد ، ومرتبة أهل الوحدة الذاتية ؛ إذ الشريعة إنما هي الوقاية الموضوعة بالوضع الإلهي بين الأنام ؛ ليوفقهم الحق بها إلى دار السلام التي هي مقعد صدق الرضا والتسليم الذي هو أعلى مقامات العارفين ، وأقصى حالات الموحدين المكاشفين . هدانا الله وعموم عباده إلى سواء السبيل ، وأعاذنا الله وإياهم عن الانحراف والتحويل بلطفه الجميل ، وكرمه الجزيل .