Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 68, Ayat: 43-52)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
بل صاروا { خَٰشِعَةً } ذليلة حاسرة { أَبْصَٰرُهُمْ } هائمة عقولهم ، وبالجملة : { تَرْهَقُهُمْ } وتلحقهم { ذِلَّةٌ } محيطة بجميع جوانبهم { وَ } كيف لا يكونون كذلك يومئذٍ ؛ إذ هم { قَدْ كَانُواْ } في نشأة الاخيتار { يُدْعَوْنَ إِلَى ٱلسُّجُودِ } حينئذٍ { وَهُمْ سَٰلِمُونَ } [ القلم : 43 ] متمكنون قادرون عليه ، فلم يفعلوا عناداً ومكابرةً ؟ ! فالآن قد انقضى وقت الاعتبار ، فلا ينفعهم التذلل والانكسار سواء قدروا أو لم يقدروا . وبعدما بالغ المنكرون المكذِّبون في قدح القرآ ، وطعنه ، وأصروا على العناد والاستكبار . { فَذَرْنِي } أي : خلني يا أكمل الرسل { وَ } وفوض عليّ أمر { مَن يُكَذِّبُ بِهَـٰذَا ٱلْحَدِيثِ } يعني : القرآن ، ولا تُتعب نفسك في معارضتهم ومجادلهم ، ولا تعجل في أخذهم وانتقامهم ، فإني أنتقم منهم ، وأكفيك مؤنة شرورهم ، فاعلم أنَّا { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ } أي : ندنيهم درجة درجة إلى سوء العذاب بأن نهملهم في الدنيا ، وننعم عليهم ، ونديم صحتهم ونوفر عليهم أسباب الشقاوة حتى صاروا مغمرين في الكفر والطغيان ، منهمكين في الضلال والعصيان ، ثمَّ نبطشهم { مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] أي : من جهة وطريقة لا يفهمون أنه من جهته وطريقه مكراً عليهم ، وزجراً لهم . { وَ } بالجملة : { أُمْلِي لَهُمْ } وأمهلهم كيداً عليهم ، وهم لا يشعرون { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } [ القلم : 45 ] محكم لا يفهمه أحد ، ولا يدفعه شيء . أينكرون إرشادك وتبليغك إياهم عناداً ومكابرةً ؟ ! { أَمْ } يظنون أنك { تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } جعلاً على إرشادك وتكميلك إياهم ؟ ! { فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ } أي : من أجل غرامة { مُّثْقَلُونَ } [ القلم : 46 ] بحملها فيعرضون عنك ، ويكذبونك بسببها . { أَمْ } يدَّعون الاطلاع على المغيبات ، ويزعمون أن { عِندَهُمُ ٱلْغَيْبُ } أي : لوح القضاء { فَهُمْ يَكْتُبُونَ } [ القلم : 47 ] منه جميع ما يحكمون به من الإقرار والإنكار ، وبه يستغنون عن تعليمك وإرشادك ؛ لذلك يكذبونك وينكرون عليك ؟ ! وهم وإن بالغوا في العناد والإنكار { فَٱصْبِرْ } أنت يا أكمل الرسل { لِحُكْمِ رَبِّكَ } وهو تأخير نصرك عليهم ، وإمهالهم زماناً على حالهم ، ولا تستعجل في مؤاخذتهم { وَلاَ تَكُن } في الاستعجال { كَصَاحِبِ ٱلْحُوتِ } يعني : أخاك يونس بن متى عليه السلام ، فاستعجل العذاب القومه ، ثمَّ لمَّا ظهرت أماراته خرج من بينهم مغاضباً عليهم حتى اقتحرم البحر { فَسَاهَمَ } [ الصافات : 141 ] في السفينة { فَكَانَ مِنَ ٱلْمُدْحَضِينَ * فَٱلْتَقَمَهُ ٱلْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ } [ الصافات : 141 - 142 ] ، اذكر { إِذْ نَادَىٰ } ربه في بطن الحوت { وَهُوَ } حينئذٍ { مَكْظُومٌ } [ القلم : 48 ] مملوء غضباً وغيظاً ، مبتلى بالبلاء العظيم . { لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ } أدركته { نِعْمَةٌ مِّن رَّبِّهِ } يعني : لو لم يوفقه سبحانه على نعمة التوبة ، والإنابة والرجوع إليه على وجه الإخلاص والندامة { لَنُبِذَ } وطرح ألبتة { بِٱلْعَرَآءِ } أي : الأرض الخالية عن الشجر { وَهُوَ } حينئذٍ { مَذْمُومٌ } [ القلم : 49 ] مليم مطرود من الرحمة والكرامة . لكن أدركته العناية الإلهية ، وانفتح له باب التوبة والاستغفار على وجه الندم والانكسار ، فاستغفر ربه وتاب عليه ، وأجاب له تفضلاً عليه وامتناناً { فَٱجْتَبَاهُ رَبُّهُ } أيضاً لمصلحة النبوة فأرسله إلى قومه { فَجَعَلَهُ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ } [ القلم : 50 ] الكاملين في الصلاح ، الفائزين بالعصمة والفلاح . { وَ } من غلظ غيظهم معك يا أكمل الرسل ، وشدة شكيمتهم وضغينتهم بالنسبة إليك { إِن يَكَادُ } أي : إنه يقرب { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بالله ، وستروا محامد أخلاقك ، ومحاسن شيمك { لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُواْ ٱلذِّكْرَ } أي : حين سمعوا منك تلاوة القرآن المعجز ، وتعجبوا من بدائع نظمه ، وغرائب أسلوبه ، وكمال فصاحته وبلاغته ، ومتانة تركيباته الفائقة على تراكيب عموم أرباب اللسن والفصاحة ، وعجائب معانيه التي قرعت أسماعهم ؛ لذلك حسدوك خفية ، وقصدوا مقتك بإصابة العين { وَ } إن كانوا { يَقُولُونَ } عند الملأ : { إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } [ القلم : 51 ] يتكلم بكلام المجانين ، ما هو من جنس كلام الناس تلبيساً على ضعفاء الأنام ، وتغريراً لهم ؛ لئلا يتفطنوا على عظمة شأنك ، ورفعة قدرك ومكانك . وهم في خلواتهم على ظنة تامة ، وحسد كامل مما صار منك وظهر عليك من الخوارق { وَ } كيف يقولون لك : مجنون ، وينسبون كلامك إلى الجنون ، مع أنه { مَا هُوَ } أي : القرآن المعجز الذي { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] ، { إِلاَّ ذِكْرٌ } هداية ورشد وتبصرة كاملة ، وتذكير شامل { لِّلْعَالَمِينَ } [ القلم : 52 ] أي : لعموم المكلفين ممن يوفقهم الحق إلى صراط مستقيم . جعلنا الله ممن تذكر به ، واتعظ بما فيه بمنِّه وجوده . خاتمة السورة عليك أيها المريد القاصد لسلوك طريق التوحيد - هداك الله إلى سواء السبيل - أن تتصبر على مشاق الطاعات ، ومتاعب التكاليف الواقعة في سلوك طريق الفناء ، سيما أذيات الزائفين الضالين ، المائلين عن سبيل الرشاد ، المنحرفين عن جادة العدالة الإلهية ، فعليك ألاَّ تلتفت نحوهم ، ولا تبال بشأنهم ، ولا تستعجل بانتقامهم ، فأن الله يكفي عنك مؤنة شرورهم ، فعليك الاصطبار والوقار ، والأمر بيد الله الحكيم الجبار ، القدير القهار ، فسينتقم من أهل البغي والإنكار على أبلغ وجه وآكده .