Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 73, Ayat: 1-13)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } [ المزمل : 1 ] المتغطي المتلفف بثوبه وقطيفته نائماً ، أو مرتدعاً عمَّا دهشه بدء الوحي . شأن النبوة والرسالة ما هو هذا { قُمِ ٱلَّيلَ } وداوم على التهجد فيه { إِلاَّ قَلِيلاً } [ المزمل : 2 ] منه ؛ للاستراحة والنوم تقويةً لمركب بدنك ، وتنشيطاً له على العبادة . يعني : { نِّصْفَهُ } أي : نصف الليل { أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ } أي : من النصف { قَلِيلاً } [ المزمل : 3 ] ليقرب الثلث . { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } أي : على النصف حتى يقرب الثلثين ، وإنما خير بين هذه الثلاثة ؛ لأنه فرض أولاً قيام الكل ، ولمَّا تحرجوا ومرضوا ، وشق عليهم الأمر ، رحم الله عليهم فخيرهم في هذه الأوقات بناء على تفاوت أمزجة الناس في عروض الكلال بالسهر ، وبعد القيام تهجد { نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] ، { وَرَتِّلِ } في تهجدك { ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } [ المزمل : 4 ] أي : بين حروفه ، وقررها في مخارجها إلى حيث لا يشتبه على السامع العارف بأساليب الكلام ومنطوقات الألفاظ معانيها . وبالجملة : اقرأها على تؤدة تامة ، وطمأنينة كاملة بعزيمة خالصة ، وإرادة صادقة إلى حيث تتأثر من ألفاظ القرآن فطرتك وفطنتك التي هي خلاصة وجودك ، وزبدة أركانك وطبيعتك ؛ إذ بها توسلك ووصولك إلى مقصد التوحيد واليقين . وبالجملة : { إِنَّا } من مقام عظيم جودنا { سَنُلْقِي عَلَيْكَ } يا أكمل الرسل { قَوْلاً } جزلاً سهلاً ، خفيفاً على اللسان ألفاضه وكلماته { ثَقِيلاً } [ المزمل : 5 ] عظيماً على القلب رموزه وإشاراته ، والاتصاف بما فيه ، والامتثال بمقتضيات أوامره ونواهيه ، والاطلاع على سرائر الأحكام الموردة فيه ، والإحاطة بقوامه وخوافيه ، وبالجملة : من تأمل فيه على وجه التدرب والتدبر فقد غرق في تيار بحاره الزخار . وتخصيص الأمر بالليل وترتيل القرآن فيه { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ } أي : القراءة التي تنشأ من النفس في جوف الليل حين خلو القلب عن جميع الأشغال والملاهي { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً } تأثيراً ودفعاً في القلب ، وتنبيهاً له ، وإن كانت أثقل للنفس وأتعب للبدن { وَأَقْوَمُ قِيلاً } [ المزمل : 6 ] أي : أعدل الأقوال بالنسبة إلى القلب وأرسخها فيه ، وأقواها أثراً وانتباهاً بخلاف النهار . { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ } الذي هو وقت الأشغال والالتفات إلى المهمات ، ومحل أنواع الملمات والواقعات ؛ لذلك عرض لك { سَبْحَاً طَوِيلاً } [ المزمل : 7 ] تقلباً وتصرفاً طويلاً شاغلاً لأوقاتك ، مشوشاً لحالاتك . وبالجملة : الفراغ الذي يحصل بالليل لا يحصل في النهار ، فعليك أن تجتهد في التهجد ، وتقرأ القرآن فيه ، سيما عند الفجر { إِنَّ قُرْآنَ ٱلْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً } [ الإسراء : 78 ] . { وَ } بالجملة : { ٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ } وداوم على تسبيحه وتقديسه دائماً في أوقاتك وحالاتك ، ولا شتغلنك عن ذكره مهماتك ، بل { وَتَبَتَّلْ } أي : تجرد وانقطع عن عموم المهام { إِلَيْهِ } سبحانه { تَبْتِيلاً } [ المزمل : 8 ] وتجريداً كاملاً بحيث لا يخطر ببالك الالتفات بحالك ، فكيف بحال غيرك ؟ ! وكيف لا تنقطع إليه ولا تتجرد نحوه ، مع أنه سبحانه { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } أي : جنس المشارق والمغارب التي هي ذرائر الكائنات باعتبار ظهور شمس الذات منها ، وشروقها عليها ، وباعتبار بطونها وخفائها فيها ؛ إذ { لاَ إِلَـٰهَ } أي : لا موجود في الوجود { إِلاَّ هُوَ } ولا شيء سواه { فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } [ المزمل : 9 ] سيما بعدما لم يوجد في الوجود غيره أصيلاً ؟ ! { وَ } بعدما اتخذته وكيلاً ، وجعلته حسيباً وكفيلاً { ٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } أي : المشركون المسرفون من الخرافات والجزافات التي لا تليق بشأنك ، إن شق عليك الصبر والتحمل { وَٱهْجُرْهُمْ } اتركهم وانصرف عنهم { هَجْراً جَمِيلاً } [ المزمل : 10 ] بشَّاشاً بسَّاماً بلا التفات إلى هذياناتهم الباطلة ، وبلا مبالاة بهم وبكلامهم ، وتوكل على الله ، وفوض أمر انتقامهم إليه ، فإنه يكفيك مؤنة شرورهم واستهزائهم . ثمَّ قال سبحانه على سبيل التسلية لحيبيه صلى الله عليه وسلم : { وَ } بعدما بالغوا في قدحك وطعنك يا أكمل الرسل { ذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ } يعني : دعني معهم ، وفوض أمر انتقامهم إليّ ، فإني أنتقم عنهم من قبلك ، وأدفع أذاهم عنك ، وأغلبك عليهم ، وإن كانوا { أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ } وذوي الثروة والسيادة ، وأصحاب التنعم والوجاهة - يريد صناديد قريش - { وَ } لا تستعجل في انتقامهم ، بل { مَهِّلْهُمْ } إمهالاً { قَلِيلاً } [ المزمل : 11 ] أو زماناً قليلاً . ولا تيأس من مكرنا إياهم { إِنَّ لَدَيْنَآ } معداً لهم أنواعاً من العذاب { أَنكَالاً } أثقالاً ؛ لتثاقلهم وعدم تحملهم وتصبرهم بمتاعب التكاليف الإلهية ، ومشاق الطاعات والعبادات المأمورة لهم من قِبَله سبحانه { وَجَحِيماً } [ المزمل : 12 ] عظيماً بدل ما يتلذذون بنيران الشهوات ، ويظلمون الناس بأنواع الغضب والطغيان . { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } ينشب في الحلق ، و { لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ } [ الغاشية : 7 ] ، بدل ما يأكلون من السحت والربا ، وأموال اليتامى ظلماً { وَعَذَاباً أَلِيماً } [ المزمل : 13 ] لا عذاب أشد إيلاماً منه ، وهو حرمانهم عن لقاء الله ، وخذلانهم على ما فات عنهم من التحقق في كنف حفظه وجواره .