Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 73, Ayat: 20-20)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وبعدما أمر سبحانه حبيبه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل على الوجه المذكور ، وحثه عليه ، ورغبه على وجه المبالغة والتأكيد بأن علله بعلمه سبحانه إياه على أيّ وجه ، فقال : { إِنَّ رَبَّكَ } يا أكمل الرسل { يَعْلَمُ } بعلمه الحضوري { أَنَّكَ تَقُومُ } إلى التهجد { أَدْنَىٰ } وأقل { مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ } وأعلى ، وأكثر من نصفه تارة { وَ } تارة أخرى أدنى من { نِصْفَهُ } السياق يدل على أن التفسير جرى على قراءة ابن عامر ونافع وغيرهما : { وَنِصْفَهُ } تارة أدنى من { ثُلُثَهُ } السياق يدل على أن التفسير جرى على قراءة ابن عامر ونافع وغيرهما : { ثُلُثَهُ } وأكثر من ربعه ، وهذا أدنى تاراتك ، وأعلاها : ما هو أدنى من ثلثي الليل ؛ إذ هي أقرب إلى قيام الكل الذي فرض أولاً ، ثمَّ الثانية ، ثمَّ الثالثة . { وَطَآئِفَةٌ } أي : ويعلم سبحانه أيضاً قيام طائفة { مِّنَ } المؤمنين { ٱلَّذِينَ } يقومون { مَعَكَ } ويوافقون لك في تهجدك وقيامك ؛ يعين : علمه سبحانه محيط بهذه الأوقات الثلاثة الواقعة منك ومنهم ، بخلاف علمك فإنه ؛ أي : علمك لا يقدر بتعيينها على وجهها { وَ } بالجملة : { ٱللَّهُ } العليم الحكيم الذي { يُقَدِّرُ } بمقتضى علمه وإرادته { ٱلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ } على سبيل التجدد والتتابع ، والاختلاف طولاً وقصراً ، وإيلاج بعض أجزاء كل منهما على الآخر ، وإخراجهما منه ، وضبط أجزائهما وساعاتهما وآنائمها ، إنما هي بعلمه لا بعلم غيره من مظاهره ومصنوعاته ، وهو سبحانه { عَلِمَ } منك { أَن } أي : إنه { لَّن تُحْصُوهُ } أي : ليس ي وسعكم وطاقتكم تقدير الأوقات ، وضبط الأحيان والساعات ، وإحصاء الآناء الواقعة في الليل والنهار ، وقيامكم في كلها أو بعضها على وجه التعيين والتخصيص . وبعدما ظهر عنده سبحانه عدم طاقتكم ووسعكم { فَتَابَ } أي : عاد { عَلَيْكُمْ } ورجع عمَّا ألزمكم ، وأزال تعبكم بالرخصة في ترك القيام المقدر المعين على الوجوه المذكورة ؛ إذ لا يسع لكم ضبطها ، وبعدما رخصكم سبحانه ، وخفف عنكم تفضلاً وامتناناً ، قوموا في خلال الليل مقدار ما يسّر الله لكم ووفقكم عليه { فَٱقْرَءُواْ } أي : صلوا التهجد بقراءة { مَا تَيَسَّرَ } لكم { مِنَ ٱلْقُرْآنِ } المقرون بصلاتكم . قيل : كان التهجد واجباً على التخيير المذكور ، ثمَّ رخص بترك التقدير والتعيين ، ثمَّ نسخ هذا أيضاً بالصلوات الخمس المقدرة في الأوقات الخمسة ، وإنما نسخه سبحانه ؛ إذ { عَلِمَ } بمقتضى حضرة علمه وحكمته { أَن } أي : إنه { سَيَكُونُ } بعضاً { مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } من السهر المفرط ؛ إذ الأبدان متفاوتة في تحمل المشاق ، سيما ترك النوم المعدّ ؛ لاستراحة البدن في الليل { وَ } أيضاً { آخَرُونَ } منكم { يَضْرِبُونَ } ويسافرون { فِي ٱلأَرْضِ } سفراً مباحاً { يَبْتَغُونَ } ويطلبون بسفرهم { مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } وسعة جوده وكرمه مزيد رزق ، أو طلب علم ، أو صلة رحم ، أو زيارة صديق إلى غير من الأسفار المشروعة ، فيتحرجون بقيام الليل والتهجد فيه { وَآخَرُونَ } أيضاً { يُقَٰتِلُونَ } مع أعداء الله { فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } ترويجاً لدينه ، وإعلاءً لكلمة توحيده ، فإنهم لو تهجدوا لضعفوا ألبتة فشق عليهم أمر القتال . وبعدما أزال عنكم سبحانه حرجكم وتعبكم بمقتضى حكمته المتقنة البالغة ، فعليكم ألاَّ تتركوا التهجد رأساً ، ولا تنسوه جملةً ، بل قوموا في خلال الليل ؛ للتهجد إن استطعتم { فَٱقْرَءُواْ } فيه { مَا تَيَسَّرَ } لكم { مِنْهُ } أي : من القرآن { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } المفروضة ، وواظبوا على أدائها وقيامها حق المواظبة ، وراعوا أركانها وأبعاضها وهيئاتها على وجوهها ، وبالجملة : أدوها على وجه يرضى عنكم مولاكم ، ولا تهاونوا عليها ، ولا تقصروا فيها . واعلموا أيها المؤمنون أن الفارق بين الإيمان والكفر ، والهداية والضلال إنما هي الصلاة التي هي أقوى أعمدة الدين وأقومها { وَ } أيضاً { آتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ } المأمورة لكم على سبيل الوجوب ؛ تزكيةً لأنفسكم عن الشح ، وأموالكم عن الفضلات ، وتمريناً لأنفسكم على الإنفاق وفعل الخيرات { وَ } بعد أداء الواجب من الزكاة { أَقْرِضُواْ ٱللَّهَ } القادر المقتدر على وجوه الإنعامات بإعداء فواضل الصدقات ، وأنواع الخيرات وبناء المساجد والرباطات ، وغير ذلك مما يتعلق بمصالح المسلمين من المنافع الحاصلة بالمال { قَرْضاً حَسَناً } بلا شوب المنِّ والأذى ، والسمعة والرياء ، والعجب وأنواع الهوى . { وَ } اعلموا أيها المؤمنون أن { مَا تُقَدِّمُواْ } وتؤخروا { لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ } موجب لأجر مستلزم لثواب ، سواء كان مالياً أو بدنياً ، قبل حلول الأجل وهجوم الموت { تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ } المفضل المنعم { هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } وأكرم محلاً ، وأعز درجةً ومنزلاً من الذي يؤخرونه إلى الوصية حين حلول الأجل { وَ } إن جرى عليكم ي سالف زمانكم ما جرى من ترك الاستغفار { ٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ } المفضل المكرم لما صدر عنكم ، واشتغلوا لامتثال أوامره في بقية أعماركم تلافياً لما مضى { إِنَّ ٱللَّهَ } المطلع على إنابتكم ونياتكم فيها { غَفُورٌ } يغفر زلتكم الماضية أيضاً { رَّحِيمٌ } [ المزمل : 20 ] يقبل توبتكم اللاحقة لها بمنِّه وجوده . خاتمة السورة عليك أيها السالك لسلوك التوحيد ، والقاصد نحو مقصد الفناء أن تبذل وسعك في طريق التوحيد ببدنك ومالك ، وجميع أحوالك وأطوارك ، وتجتهد في تصفية ظاهرك وباطنك ، وتخلية قلبك عن الشواغل العائقة عن التوجه التام والالتفات الخالص . فلك أن تلازم العزلة ، وتداوم الخلوة ، وتواظب على الاتصاف بالأطوار والأخلاق الموروثة لك من النبي المختار ، والمأثورة منه من الآثار ، وامتثال ما في كتاب الله من الأوامر والنواهي والأحكام الموردة فيه ؛ لتصفية الخاطر عن الميل إلى ما سوى الحق من الأغيار الساقطة عن درجة الاعتبار ؛ لتكون من الأبرار الأخيار الموسومين بأولي العبرة والأبصار ، وتفوزوا بما فاز من الرموز والأسرار . وإياك إياك ومصابحة الأشرار المغترين بلذات الدنيا الغدارة ، وشهوات الحياة المستعارة المستلزمة لأنواع الخسار والبوار . جعلنا الله الغفور الغفار من ذوي العبرة والاستبصار بفضله وطوله .