Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 1-24)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } [ المدثر : 1 والمتدثر : المتغطي بملابس الطبيعة ، وثياب الإمكان الموجبة لأنواع الخسران والحرمان . { قُمْ } من عالم الطبيعة ، واخرج عن مضيق بقعة الإمكان بعدما كشفت طلائع فضاء اللاهوت ، وبعدما خلصت من سجن عالم الناسوت { فَأَنذِرْ } [ المدثر : 2 ] عموم بني نوعك ؛ أي : المحبوسين في سجن الإمكان ، المقيدين بسلاسل الزمان ، وأغلال المكان عن دركات النيران ، وأودية الضلالات والجهالات في النشأة الأولى والأخرى . { وَ } خصص { رَبَّكَ } الذي ربَّاك على فطرة المعرفة والإيقان بأنواع التجبيل والتعظيم { فَكَبِّرْ } [ المدثر : 3 ] ذاته تكبيراً كاملاً إلى حيث لا يخطر ببالك معه شيء ؛ إذ هو المتعزز برداء العظمة والكبرياء ، لا شيء سواه . وبعدما انكشفت بوحدة ربك ، وكبرته تكبيراً لائقاً بشأنه { وَثِيَابَكَ } التي هي ملابس بشريتك { فَطَهِّرْ } [ المدثر : 4 ] عن أوساخ الإمكان ، وقذر عالم الطبيعة والهيولي ، فإن طهارتك عنها واجبة عليكم في ميلك إلى مقصد الوحدة . { وَٱلرُّجْزَ } أي : الرجز العارض لبشريتك من التقليدات الموروثة ، والتخمينات المستحدثة من الآراء الباطلة ، والأهواء الفاسدة المكدرة لصفاء مشرب التوحيد واليقين من الأخلاق الرديئة ، والملكات الغير مرضية من الشهوية والغضبية المترتبة على القوى البهيمية إلى غير ذلك من القبائح الصورية والمعنوية . { فَٱهْجُرْ } [ المدثر : 5 ] أي : جانِب وافترق ؛ ليمكنك التخلق بأخلاق الله ، والاتصاف بأوصافه . ومن جملة الأخلاق المذمومة ، بل من معظمها : المنة على الله بالطاعة وفعل الخيرات ، وعلى عباده بالتصدق والإنفاق عليهم . { وَ } إذا سمعت { لاَ تَمْنُن } على الله مباهياً بطاعتك ، وعلى عباده تفوقاً عليهم { تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] وتستجلب نعم الله على نفسك وإحسانه عليك ، وامتنانه لك بما لا مزيد عليه ، أو المعنى : { لاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } أي : لا تعط أحداً شيئاً على نية أن تستكثر وتتعوض منه بدله أكثر مما أعطيته ، على مقتضى القراءتين . { وَ } بالجملة : { لِرَبِّكَ } الذي ربَّاك على الخُلق العظيم { فَٱصْبِرْ } [ المدثر : 7 ] على مشاق التكاليف ، ومتاعب الطاعات والعبادات ، وعلى أذيات المشركين حين تبليغ الدعوة إياهم ، وإيصال الوحي إليهم . وبعدما سمعت يا أكمل الرسل من الوصايا ما سمعت ، امتثل بها واتصف بمقتضاها اتقاءً عن يوم الجزاء . { فَإِذَا نُقِرَ } ونُفخ { فِي ٱلنَّاقُورِ } [ المدثر : 8 ] أي : الصور المصور ؛ لتصويت الأموات ؛ ليبعثوا من قبورهم أحياءً كما كانوا ، ثمَّ نُقر ثانياً ؛ ليحشروا إلى المحشر ، ويحاسبوا بين يدي الله ، ثمَّ يجازوا على مقتضى ما يحاسب ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر . { فَذَلِكَ } أي : وقت النقر الثاني للحشر والوقوف بين يدي الله { يَوْمَئِذٍ } أي : يوم القيامة { يَوْمٌ عَسِيرٌ } [ المدثر : 9 ] . { عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } إذ عسر عليهم حينئذٍ الأمر ، واشتد الهول ، وتشتتت أحوالهم واضطربت قلوبهم ، وبالجملة : { غَيْرُ يَسِيرٍ } [ المدثر : 10 ] عليهم حسابهم ؛ لذلك عسر عليهم . وبعدما سمعت قيام يوم القيامة وتنقيد الأعمال فيها ، والجزاء عليها ، لا تستعجل يا أكمل الرسل لانتقام المشركين المسرفين ، ولا تعجل عليهم ، بل { ذَرْنِي } يا أكمل الرسل { وَمَنْ خَلَقْتُ } أي : مع شخص خلقته { وَحِيداً } [ المدثر : 11 ] متفرداً من أهل عصره ، مفروزاً منهم بكثرة الأموال والأولاد ، والثروة والجاه ، إلى حيث لُقب بين قومه بريحانة قريش ؛ يعني : وليد بن المغيرة . { وَجَعَلْتُ لَهُ } توسيعاً عليه ، وامتناناً له { مَالاً مَّمْدُوداً } [ المدثر : 12 ] كثيراً وافراً ، متزايداً يوماً فيوماً بالتجارة والنتاج والزراعة وغير ذلك . { وَبَنِينَ شُهُوداً } [ المدثر : 13 ] حضوراً معه دائماً ، لا ينفصلون عنه زماناً ؛ لاستغنائهم عن التجارة والحراثة وسائر المصالح ؛ لكثرة خدمهم وحشمهم ، بحيث لا احتياج لهم من تهيئة أسبابهم إلى ترددهم بأنفسهم ؛ لذلك يحضرون معه في جميع المحافل والمجالس ، والأندية تكميلاً لثروته ووجاهته . { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } [ المدثر : 14 ] أي : بسطت له بسطاً واستيلاءً ، يتحسر ويتحسد بحاله جميع بطون العرب وأفخاذه . ومع تلك الوجاهة العظمى ، والكرامة الكبرى الموهوبة له لم يشكر عليَّ ، ولم يرجع إليَّ قط { ثُمَّ يَطْمَعُ } ويرجو { أَنْ أَزِيدَ } [ المدثر : 15 ] على ما آتيته وأعطيته من النعم العظام ، مع أنه مصر على الكفر الكفران ، وأنواع الفسوق والعصيان . { كَلاَّ } أي : كيف أزيد عليه ، مع أن كفرانه وطغيانه يوجب ويقتضي زوال ما أُعطي به ، وكيف لا يوجبه { إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا } الدالة على كمال عظمتنا ، واقتدارنا على أنواع الإنعام والانتقام { عَنِيداً } [ المدثر : 16 ] معانداً منكراً ، وعناده أمارة زوال ماله وثروته وجاهه ؟ ! وبالجملة : { سَأُرْهِقُهُ } أي : سأغشيه وأكلفه بالعنف في النشأة الأخرى { صَعُوداً } [ المدثر : 17 ] عقبة شاقة المصعد والمهوى ، فأكلفه على الصعود والهبوط دائماً ، بحيث لا نجاة منها ، وعنه صلى الله عليه وسلم : " الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفاً ، ثمَّ يهوى فيه كذلك أبداً " ، وهو مثل لما يلقى من الشدائد . وكيف لا أكلفه بصعود الصعود وهبوطه { إِنَّهُ } من شدة شكيمته ، وخباثة طينته { فَكَّرَ } في آيات القرآن على وجه التدبر فلم يجد فيه طعناً وقدحاً { وَ } بعدما لم يجد ما يصلح للطعن { قَدَّرَ } [ المدثر : 18 ] في نفسه على مقتضى خباثته ما ينفق به ، ويقول فيه على سبيل القدح ؟ ! ثمَّ قال سبحانه على سبيل التعجب من إفكه وتقديره : { فَقُتِلَ } أي : لُعن وطُرد { كَيْفَ قَدَّرَ } [ المدثر : 19 ] له قدحاً ، مع أن القرآن منزه عن القدح مطلقاً ؟ ! { ثُمَّ قُتِلَ } ذلك المعاند الطاغي { كَيْفَ قَدَّرَ } [ المدثر : 20 ] ما هو بعيد عن شأن القرآن بمراحل ؟ ! كرره سبحانه مبالغةً في التعجب والاستبعاد . { ثُمَّ نَظَرَ } [ المدثر : 21 ] كرة بعد أولى ، ومرة بعد أخرى في أمر القرآن { ثُمَّ } لمَّا لم يجد فيه طعناً ، مع أنه من أرباب اللسن والفصاحة { عَبَسَ } أي : قطب وجهه وكلح ، واستكره كراهة شديدة { وَبَسَرَ } [ المدثر : 22 ] اهتم وبالغ في وجدان القدح اهتماماً بليغاً فلم يجد ، وأيس ملوماً مخذولاً . { ثُمَّ } بعدما دبر مراراً فلم يجد { أَدْبَرَ } عن الإيمان بعدما أشرف على الإقبال بالإيمان والقبول { وَ } ما حمله على الإدبار إلى أنه { ٱسْتَكْبَرَ } [ المدثر : 23 ] واستحيى عن أتِّباعه . وبالجملة : { فَقَالَ } بعد اللتيا والتي { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } [ المدثر : 24 ] أي : يُروى ويُتعلم .