Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 25-31)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ إِنْ هَـٰذَآ } أي : ما هذا { إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ } [ المدثر : 25 ] ما هو من الوحي وكلام الله ، كما ادَّعاه محمد صلى الله عليه وسلم مفترياً على الله . رُوي أنه مر الوليد بن المغيرة بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يقرأ : حم السجدة ، فسمعه بسمع الرضا متدرباً بأسلوبه ، ثمَّ أتى قومه فقال : لقد سمعت من محمد آنفاً كلاماً ما هو من جنس كلام الإنس والجن ، إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه ، ثمَّ خرج . فقالت قريش : والله ، قد صبأ الوليد ، ولتصبون قريش كلهم ، فقال ابن أخيه أبو جهل : أنا أكفيكموه ، فجلس إلى جنبه حزيناً ، فقال : ما لي أراد حزيناً يا ابني أخي ؟ فقال هذه قريش يجمعون لك نفقة ، يعينونك على كبر سنك ، يزعمون أنك زيَّنت كلام محمد ؛ لتنال من فضل طعامه . فغضب الوليد فقال : لم تعلم قريش أني أكثرهم مالاً وولداً ، وهل يشبع محمد وأصحابه أن يكون لهم فضل ؟ ! ثمَّ قام مع أبي جهل حتى أتى قومه ، فقال : تزعمون أن محمداً مجنون ، فهل رأيتموه يتجنن قط ؟ قالوا : اللهم لا ، ثمَّ قال : تزعمون أنه كاهن ، فهل رأيتموه يتكهن قط ؟ قالوا : لا ، ثمَّ قال : تزعمون أنه شاعر ، فهل رأيتموه ينطق بالشعر قط ؟ قالوا : اللهم لا ، ثمَّ قال : تزعمون أنه كذَّاب ، فهل جريتم عليه شيئاً من الكذب ؟ قالوا : اللهم لا . ثمَّ سكت ، قالت قريش : فما هو ؟ فتكفر في نفسه ، وقدر في نجواه ، ثمَّ قدر ، فقال : ما هو إلاَّ ساحر ، أما رأيتموه يفرق بين المرء وأهله ، وولده ومواليه ، وما يقوله مفترياً إلى ربه سحر يؤثر ؟ . فقال تعالى زجراً عليه ، وجزاءً له : { سَأُصْلِيهِ } وادخله { سَقَرَ } [ المدثر : 26 ] . { وَمَآ أَدْرَاكَ } وأعلمك يا أكمل الرسل { مَا سَقَرُ } [ المدثر : 27 ] وما شأنها ؟ أبهمها تفخيماً وتهويلاً . وغاية ما يدرك من شأنها : إنها { لاَ تُبْقِي } شيئاً يقع فيها ، بل تهلكة { لاَ تَذَرُ } مع إهلاكه وإفنائه { وَ } [ المدثر : 28 ] ولا تدع على هلاكه وفنائه ، بل يوجده الله بكمال قدرته ، ثمَّ يهلكه ، ثمَّ يوجده فتهلكه أبداً كذلك . وأيضاً من شأنها : إنها { لَوَّاحَةٌ } مسودة ؛ من شدة إحراقها { لِّلْبَشَرِ } [ المدثر : 29 ] أي : الشرة التي هي عبارة عن ظاهر الجلد . وأيضاً من شأنها : إنها { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } [ المدثر : 30 ] أي : تسعة عشر من الزَّبانية الموكلة عليه بإذن الله ، وهي من الملائكة أو شبيهة بهم . إنما اختص هذا العدد ؛ لأن الأعمال الفاسدة ، والأفعال القبيحة الموجبة للدخل في سقر إنما يكتسب بالقوى البهيمية ، والقوى الطبيعية ، أمَّا القوى البهيمية فاثني عشر : الشهوية ، والغضبية ، والحواس الظاهر والباطنة ، وأمَّا القوى الطبيعية فسبع : الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة ، والغاذية ، والنامية ، والمولدة . وبالجملة : يصور السقر من مقتضيات هذه القوى ، ويوكل عليها من زواجر الزَّبانية على عدد مأخذها عدلاً منه سبحانه ؛ لينزجر كل من القوى بزاجر يناسبها . ولمَّا نزلت قال أبو جهل : ثكلتكم أمهاتمكم بخبر ابن أبي كبشة ، إن خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الدُّهم ؛ أي : الشجعان ، أتعجز كل عشر أن تبطش بواحد منهم ؟ ! وبعدما قالوا ما قالوا على سبيل التهكم أنزل سبحانه : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ } وخزنتها { إِلاَّ مَلَٰئِكَةً } أقوياء ، قوتهم لا تُقاس بالقوى البشرية ، بل لا يقاوم جميع من على الأرض بواحد من الملك في القوة والصولة { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ } أي : عددهم المذكور { إِلاَّ فِتْنَةً } اختباراً وابتلاءً ؛ أي : سبب اختبار افتتان لهم ، يفتنون بهذا العدد ، تارة يستقلون ، وتارة يستبعدون ويتعجبون من مقاومة هؤلاء المعدودين بعموم العباد المستحقين لدخول السقر من الثقلين ، وبالجملة : يستهزئون بهذا القول ، ويضحكون منه ، وإنما أنزلنا هذه الآية ، وخصصنا هذا العدد وهؤلاء المعدودين { لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ } أي : ليكتسبوا اليقين ، ويجزموا بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وبصدق القرآن وحقيته ؛ لأن هذا ليس ببدع منَّا في هذا الكتاب ، بل أنزلنا كذلك في سائر كتبنا . ولمَّا وجدوه موافقاً لما كتبهم تيقنوا بصدق القرآن ونبوة النبي صلى الله عليه وسلم { وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً } على إيمانهم ؛ أي : يرسخ إيمانهم ، ويتأكد بتصديق أهل الكتاب كتابهم ونبيهم { وَ } بعدما استيقنوا واستقاموا على اليقين ، وتمكنوا فيه { لاَ يَرْتَابَ } ويشك { ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } في حقية هذا الكتاب وهذا النبي المؤيد به { وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } شك وارتياب في حقية هذا الكتاب والنبي من أهل النفاق . { وَٱلْكَٰفِرُونَ } الجاحدون الجازمون في التكذيب ، المجاحدون بالإنكار صريحاً : { مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا } أي : أيّ شيء أراد بهذا العدد المستغرب المستبعد ، إلى حيث صار في الاستغراب والاستبعاد { مَثَلاً } سائراً بين الناس يستعملونه ويتداولونه ، مستبعدينه ومستهزئين { كَذَلِكَ } أي : مثلما سمعت يا أكمل الرسل من استيقان البعض ، واستنكار البعض الآخر بهذا العدد المذكور { يُضِلُّ ٱللَّهُ } العليم الحكيم بمقتضى قهره وجلاله { مَن يَشَآءُ } إضلاله من عباده ، وأراد مقته وضلاله { وَيَهْدِي } بمقتضى لطفه وجماله { مَن يَشَآءُ } إذ هو فاعل على الإطلاق بالإرادة والاختيار والاستحقاق . { وَ } بالجملة : { مَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل ؛ أي : مظاهر لطفه وقهره ، وجماله وجلاله { إِلاَّ هُوَ } إذ هو المستقل بالإحاطة والشمول ، لا يعزب عنه شيء من الأصول والفروع ؛ إذ لا سبيل للعباد إلى إحصاء أوصافه وأسمائه التي تترتب عليها مظاهره ومصنوعاته ، ما للعباد ورب الأرباب { وَ } بالجملة : { مَا هِيَ } أي : ذكر السقر ووصفها ، وعدة الخزنة عليها { إِلاَّ ذِكْرَىٰ } أي : عظة وتذكرة نازلة من قِبَل الحق { لِلْبَشَرِ } [ المدثر : 31 ] المجبولين على العبرة والنظر ، المكلفين بجلب النفع ودفع الضر ، وبالحذر عن مقتضى القهر والجلال ، والركون إلى مقتضى اللطف والجمال .