Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 75, Ayat: 1-15)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [ القيامة : 1 ] أي : بوقوع الطامة الكبرى وثبوتها وقيامها ؛ إذ هي من غاية ظهورها وجلائها غنية عن أن يؤكَّد أمر وقوعها وقيامها بالقسم عند العارف المحقق المتحقق بقمام التوحيد واليقين . { وَلاَ أُقْسِمُ } أيضاً { بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } [ القيامة : 2 ] أي : وكذا لا حاجة إلى القسم بظهور النفس اللوامة في عالم الكون الفساد ؛ إذ كل نفس من النفوس الكائنة تعلم أن العالم ما هو إلاَّ سراب باطل وعكس زائل عاطل ، لا قرار له ، ولا مدار لها فيه ، وتلوم دائماً نفسها عليها ، إلاَّ أنها لا تتنبه على سلطنة الوحدة ، ولا تتفطن بسرايتها واستيلائها على عموم ما ظهر وبطن ، وغاب وشهد ، حتى تصير لوَّامة ، مطمئنة راضية ، وراضيته مرضية ، مرضيته فقيرة ، وفقيرته فانية ، وفانيته باقية ، وليس وراء ذلك مرمى ومنتهى . أدركنا بلطفك الخفي يا خفي الألطاف . ثمَّ التفت سبحانه نحو حقيقة الإنسان المجبول نحو فطرة العرفان حسب حصة لاهوته ، ووبَّخه بما وبَّخه تشنيعاً وتقريعاً ، فقال : { أَيَحْسَبُ } ويظن { ٱلإِنسَانُ } المجبول على الكفران والنسيان { أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } [ القيامة : 3 ] أي : إنَّا لا نقدر مع كمال قدرتنا على إبدائه وإبداعه على إعادته ، وجمع عظامه مرة بعد أخرى في يوم البعث والجزاء ؟ ! { بَلَىٰ } أي : نحن نقدر على إعادته ، وجمع عظامه ، وتسوية جميع أعطائه على الوجه الذي كان ، بل { قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } [ القيامة : 4 ] أي : سلاميه على وجهها ، وخص بالذكر ؛ لأن جميع أجزائها أصعب من سائر الجسد ؛ لاشتمالها على دقائق العظام ورقائق العروق والأعصاب ، والغضاريف والرباطات المعينة على القبض والبسط ، والأخذ والبطش ، ولصعوبة الاطلاع على أجزائها عجز الأطباء عن تشريحها ؛ يعني : إنَّا نقدر على جمعها مع صعوبتها ، فكيف نجمع غيرها ؟ ! { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ } المركَّب من الجهل والنسيان بظنه وحسبانه { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } [ القيامة : 5 ] أي : يدوم ويمضي دائماً على الفجور والفسوق ، والخروج عن مقتضى الحدود الإلهية فيما يستقبله من الزمان ، كما كان عليها فيما مضى . لذلك { يَسْأَلُ } سؤال إنكار واستعباد : { أَيَّانَ } أي : متى يقوم ، وأيّ آن يقع { يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ } [ القيامة : 6 ] التى تبلى السرائر ، وتكشف الستائر فيها ؟ . بيِّن لي أيها المدعي وقت وقوعه ؛ حتى أكف وأمنع نفسي عن الفجور ، وأتوب عنها يقيناً وثقةً ، إنما قال على سبيل الاستهزاء والتهكم . وكيف يستهزئ ويصر على الإنكار ذلك المستزئ المسرف المصر ؟ ! { فَإِذَا بَرِقَ } وتحير { ٱلْبَصَرُ } [ القيامة : 7 ] أي : حاسة عالم الناسوت وجاسوسه حين ظهرت طلائع عالم اللاهوت فزعاً وهولاً ، ودهشاً مما يرى من العجائب والغرائب الموعودة التي كان ينكر ويكذّب بها في دار الدنيا وبقعة الإمكان . { وَ } مع ذلك { خَسَفَ ٱلْقَمَرُ } [ القيامة : 8 ] أي : ذهب ضوء الوجود الإضافي المستعار ، وانمحى نوره ، وأشرف على الأفول في أفق العدم . { وَ } حينئذٍ { جُمِعَ ٱلشَّمْسُ } أي : ظهر نور الوجود المطلق المستغني عن عموم المظاهر والمجالي { وَٱلْقَمَرُ } [ القيامة : 9 ] أي : اندرج ضوء الوجود الإضافي المنعكس منها ، واندمج فيها ، ولم يبق له كون ولا لون ، ولا بين ولا بون . وبعد رجوع الكل إليها ، وانطماسها فيها ، وانقهارها دونها { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ } المنعزل عن اليقين والعرفان { يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } [ القيامة : 10 ] والملجأ ؛ حتى أفر إليه ، وألجأ نحوه ؟ . { كَلاَّ } وحاشا أن يكون له حينئذٍ ملجأ ومقر في الوجود حتى يطلبه ؛ إذ { لاَ وَزَرَ } [ القيامة : 11 ] أي : لا حصن ولا ملجأ ، ولا حرز ولا مخلِّص له يومئذٍ ، بل في عموم الأوقات والأزمان عند العارف غير الحق ؛ إذ لا شيء في الوجود سواه . فثبت أنه { إِلَىٰ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل ، وإلى كنف حفظه وجواره { يَوْمَئِذٍ ٱلْمُسْتَقَرُّ } [ القيامة : 12 ] أي : لا مقر حينئذٍ لعموم العباد إلاَّ عنده سبحانه ، ولا مرجع لهم سواه . وبعد رجوع الكل إليه سبحانه ، وحضوره دونه { يُنَبَّأُ } ويخبر { ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ } من الأعمال الصالحة ، وأتى بها { وَ } بما { أَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] منها ، ولم يأت بها وتركها ، بل أتى بأضدادها على التفصيل بلا فوت شيء منها . { بَلِ } لا حاجة حينئذٍ إلى الإنباء والإخبار بما صدر عنه ؛ إذ { ٱلإِنسَانُ } له حينئذٍ { عَلَىٰ نَفْسِهِ } وبما صدر عنه من الأعمال الصالحة والطالحة { بَصِيرَةٌ } [ القيامة : 14 ] كاملة وبيِّنة ، واضحة موضحة ؛ إذ يشهد له وعليه حينئذٍ جوارحه وآلاته التي اقترف بها ما اقترف من الحسنات والسيئات . بحيث { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } [ القيامة : 15 ] أي : جميع ما يعتذر به من الأعذار الكاذبة ، لم يسمع مع حضور الشهود والعدول التي هي أعضاؤه وجوارحه ، بل يعامل معه بمقتضى ما يحاسب عليه ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر .