Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 75, Ayat: 26-40)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ كَلاَّ } أي : كيف تحبون وتختارون اللذة الفانية العاجلة على الباقية الآجلة ؟ ! أمَا تتذكرون { إِذَا بَلَغَتِ } النفس ، وعزمت على التوديع والخروج { ٱلتَّرَاقِيَ } [ القيامة : 26 ] أي : عالم الصدر قريب المخرج ؟ ! { وَقِيلَ } حينئذٍ في حقه ؛ أي : الملائكة الموكلون على الموت ، مستفهمين فيما بينهم على سبيل المشورة : { مَنْ } من { رَاقٍ } [ القيامة : 27 ] منَّا ، قابض روحه ، أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب ؟ . { وَ } حينئذٍ { ظَنَّ } بل جزم المختصر { أَنَّهُ ٱلْفِرَاقُ } [ القيامة : 28 ] والافتراق عن الدنيا ، وما فيها من عموم اللذات والشهوات المحبوبة فيها . { وَ } بعدما جزم بفراق الأحبة { ٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ } [ القيامة : 29 ] أي : التولت ساقه باسقه من كمال ضجرته وأسفه ، فلا يقدر حركتها وتحريكها . وبالجملة : { إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ ٱلْمَسَاقُ } [ القيامة : 30 ] أي : سوقه إليه ، ورجوعه نحوه ، وحكمه عنده ، وحسابه عليه . وبالجملة : إذا سُئل الإنسان حينئذٍ عمَّا أُمر له ونهي عنه في النشأة الأولى ، كيف يجيب ، مع أنه { فَلاَ صَدَّقَ } على من أُمر بتصديقه ، ولا قَبِل منه ما هو صلاحه في دينه { وَلاَ صَلَّىٰ } [ القيامة : 31 ] ومال إلى الله في الأوقات المكتوبة المقدَّرة للتوجه والرجوع نحوه سبحانه ؟ ! { وَلَـٰكِن } عكس الأمر ؛ إذ { كَذَّبَ } على من أُمر بتصديقه { وَتَوَلَّىٰ } [ القيامة : 32 ] أي : انصرف وأعرض عن الطاعات المأمورة به . { ثُمَّ } بعد انصرافه وإعراضه عن المرشد الدَّاعي { ذَهَبَ إِلَىٰ أَهْلِهِ يَتَمَطَّىٰ } [ القيامة : 33 ] يتبختر فرحاناً مسروراً ، مباهياً بفعلته ، مفتخراً بشأنه . قيل له حينئذٍ من قِبَل الحق مخاطباً إياه بالويل والهلاك ؛ بسبب فعله هذا ومباهاته : { أَوْلَىٰ } وأليق { لَكَ } وبحالك في شأنك هذا الويل والهلاك { فَأَوْلَىٰ } [ القيامة : 34 ] لك وبحالك الويل والهلاك . { ثُمَّ أَوْلَىٰ لَكَ } كذلك { فَأَوْلَىٰ } القيامة : 35 ] لك كذلك تأكيداً على ذلك ، وتشديداً على عذابك ، ووخامة حالك ومآلك ، أيها المسرف المفرط ، المباهي بالإعراض والانصراف عن الإيمان والطاعات ؛ المراد منه : أبو جهل ، عليه اللعنة . ثمَّ قال سبحانه على سبيل التوبيخ التهديد : { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ } المصرّ على الكفران والطغيان { أَن يُتْرَكَ سُدًى } [ القيامة : 36 ] مهملاً لا يكلف ، ولا يحاسب بعد التكليف ، ولا يجازى ولا يعاقب على أفعاله ، مع أنه إنم جُبل على فطرة التكليف والمعرفة ، وبمقتضى حسبانه هذا أنكر البعث والجزاء ، وخرج عن مقتضى الأوامر والنواهي الواردة عليه في نشأة الأختبار ، مصراً على كفره وكفرانه ؟ ! ومن أين يتأتى له الخروج عن ربقة العبودية { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً } مهينة مرذولة ، حاصلة { مِّن مَّنِيٍّ } مهين مرذول { يُمْنَىٰ } [ القيامة : 37 ] ويصب في الرحم المرذول ؟ ! { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً } قذرة في الرحم ، كسائر الأقذار { فَخَلَقَ } أي : قدَّر سبحانه أعضاءه وجوارحه منها ، وبعدما قدَّره وصوَّره { فَسَوَّىٰ } [ القيامة : 38 ] أي : عَدَله وقوَّمه سبحانه بحوله وقوته ، فصار جسداً ذا حس وحركة ، وقوَّاه فأقامه . { فَجَعَلَ } وخلق بكمال قدرته ، ومتانة حكمته وصنعته لمصلحة التناسل والتكاثر { مِنْهُ } أي : من ماء الإنسان ونطفته { ٱلزَّوْجَيْنِ } الصنفين { ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } [ القيامة : 39 ] تتميماً للحكمة البالغة المتقنة . ثمَّ قال سبحانه موبخاً مقرعاً على وجه الاستبعاد عن كفران الإنسان ، وإصراره على إنكار البعث والحشر ، وإعادة الأموات أحياءً كما كان : { أَلَيْسَ ذَلِكَ } القادر المقتدر الذي قدر على خلق هذه الصور المهينة الخبيثة وتبديلها ، صوّرها عجيبة بديعة ، قابلة لفيضان أنواع الكمالات ، لائقة للخلافة والنيابة الإلهية { بِقَادِرٍ عَلَىٰ أَن يُحْيِـيَ ٱلْمَوْتَىٰ } [ القيامة : 40 ] مرة بعد أخرى ، مع أن الإعادة أهون من الإبداء ؟ ! بلى ، لك الإعادة والإبداء أيها القادر المقتدر على خلق الأشياء ، أنت تفعل ما تشاء ، وتحكم ما تريد لا تُسأل عن فعلك ، إنك حميد مجيد . خاتمة السورة عليك أيها الموحد المتحقق بحيطة الحق وشموله ، واستقلاله في تصرفات ملكه وملكوته ، وجبروته ولاهوته أن تعتقد أن قدرته الكاملة لا يعتريها كلال ، ولا يعرضها فطرة ولا زوال ، بل له أن يظهر ويوجد بمقتضى قدرته جميع ما ثبت وتحقق في حضرة علمه ، ولوح قضائه من الصور البديعة التي لا يخطر ببالك مطلقاً ، فله أن يكون ويوجد من كل ذرة عوالم ما شاء الله ، وكذا يدرج العوالم الغير المحصورة في كل ذرة من ذرائر الكائنات . وبالجملة : من وصل إلى سعة قلب الإنسان ، وساحة صدره ظهر عنده أنه لا يمتنع ، ولا يستحيل في جنب قدرته سبحانه وإرادته شيء من مقدوراته ومراداته مطلقاً . فهيهات هيهات لو نظرت إلى أجزاء العالم بنظر العبرة والاستبصار ، بل إلى نفسك ورقائق أعضائك وجوارحك ، ودفعت الألفة والعادة عن البين ، لرأيت من كل شيء وفي كل ذرة من ذرائر العالم عجائب وغرائب ، لا تُعدّ ولا تُحصى . غاية ما في الباب : إن ألفك حجبك عن هذا الإدراك ، وعادتك عاقتك عن رؤية البدائع الإلهية ، ولو تنوَّر بصر بصيرتك ، ونظر سرك وسريرتك بكحل الاستبصار والاعتبار ، لرأيت من عجائب قدرة الله ، وبدائع صنعه وحكمته في كل طرفة ولمحة ما بجنبه أمر الحشر والنشر ، وإعادة الأموات أحياء سهل يسير . حققنا بحقيتك وقيوميتك يا ذا القوة المتين .