Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 76, Ayat: 1-6)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ هَلْ أَتَىٰ } أي : قد سبق ومضى { عَلَى ٱلإِنسَانِ } المصوَّر بصورة الرحمن { حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ } أي : شأن محدود من الشئون المحدودة الإلهية ، بحيث { لَمْ يَكُن } الإنسان فيه { شَيْئاً } إذ العدم ليس بشيء ، فكيف كان { مَّذْكُوراً } [ الإنسان : 1 ] ؟ ! { إِنَّا } من مقام عظيم جودنا بمقتضى كمال قدرتنا وإرادتنا ، ووفور حكمتنا { خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ } وقدّرنا وجوده بعدما أخرجناه من العدم الصرف نحو فضاء البروز ، وصوَّرناه بصور العناصر { مِن نُّطْفَةٍ } مهينة مرذولة { أَمْشَاجٍ } مختلطة مجتمعة من الذكر والأنثى ، وبعدما صوَّرناه هيكلاً سوياً ، وأودعنا فيه ما أودعنا من الروح وسيمناه إنساناً { نَّبْتَلِيهِ } نختبره ونجرّبه ، هل يتفطن إلى موجوده ومظهره ، أم لا ؟ . وكيف لا نختبره { فَجَعَلْنَاهُ } لحكمة الاختبار ، ومصلحة الاعتبار { سَمِيعاً } متمكناً قادراً على استماع آياتنا الدالة على وحدة ذاتنا ، وكمالات أسمائنا وصفاتنا { بَصِيراً } [ الإنسان : 2 ] مقتدراً على مشاهدة بدائع صنعنا ، وغرائب صنعتنا ، وعجائب حكمتنا ؛ ليكون معتبراً منها ، متوجهاً إلى فاعلها . ومع إعطاء تلك الكرامات العظيمة إياه { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } يعني : أودعنا فيه العقل الفطري المنشعب من العقل الكلي الذي هو حضرة علمنا ، وبواسطته هديناه إلينا سبيلاً بأن أرسلنا الرسل المنبِّهين عليه ، الموقظين له من نعاس النسيان ، المنهين له إلى ما أودعنا فيه من الوديعة ، وأيدناهم بالآيات المبيِّنة المنبِّة ، النازلة من لدنا ، والبينات الواضحة الموضحة الطريق توحيدنا ، وسبيل شهودنا ، وبعدما وضح الحق ، واتضح السبيل على الوجه الأبلغ الأكمل . فعليه الاختيار { إِمَّا شَاكِراً } أي : إمَّا أن يكون شاكراً مشتغلاً بشكر النعم ، مواظباً على أداء حقوق الكرم ، صارفاً عنان عزمه واختياره إلى صوب الهداية والرشاد حتى يكون من أرباب العناية والسداد ، المتنعمين في جنة الرضا والتسليم { وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 3 ] للنعم ، كافراً لمنعمها ، مقتفياً أثر أصحاب الغفلة والعناد ، واللدد والفساد حتى يكون من أصحاب الجحيم . وبالجملة { إِنَّآ } بمقتضى قهرنا وجلالنا { أَعْتَدْنَا } وهيَّأنا { لِلْكَافِرِينَ } الساترين بغيوم هوياتهم الباطلة شمس الحق المشرقة ، الظاهرة على صفائح ذرائر الكائنات ؛ لذلك خرجوا عن ربقة ربقيته ، وعروة عبوديته ، وأعرضوا عن مقتضى حدوده الموضوعة بين عباده { سَلاَسِلاَ } أي : سلاسل الحرص وطول الأمل ، يُقادون ويُسحبون بها نحو نيران الإمكان ، وجحيم الطرد والحرمان بأنواع الخيبة والخسران { وَأَغْلاَلاً } أي : أغلال الأماني والشهوات ، يُقيَّدون بها { وَسَعِيراً } [ الإنسان : 4 ] مسعراً مملوءاً بنيران الافتقار والاحتياج ، والأماني والآمال ، يُطرحون فيها طول دهرهم بأنواع الخذلان والهوان أبداً ، ويُسجنون خالدين مخلدين . ثمَّ أردف سبحاه الوعيد بالوعد على مقتضى سنته المستمرة فقال : { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ } الأخيار ، البارين المبرورين ذوي الأيدي والأبصار ، المستغرقين في بحار المعارف والأسرار { يَشْرَبُونَ } لدى الملك الجبار خمور الشهو والاعتبار { مِن كَأْسٍ } أي : من كؤوس ذرائر العالم المستعار ؛ ولذلك { كَانَ مِزَاجُهَا } أي : ما يمزج بها ويخلط { كَافُوراً } [ الإنسان : 5 ] هو برد اليقين . يعني : { عَيْناً } معيناً هي ينبوع بحر الوجود { يَشْرَبُ بِهَا } ومنها { عِبَادُ ٱللَّهِ } الواصلون إلى عالم اللاهوت ، والفانون في فضاء الجبروت ، الباقون ببقاء حضرة الرحموت ؛ لذلك { يُفَجِّرُونَهَا } ويجرونها { تَفْجِيراً } [ الإنسان : 6 ] وإجراءً حيث شاءوا .