Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 76, Ayat: 7-14)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وصاروا من كمال وصولهم واتصالهم { يُوفُونَ بِٱلنَّذْرِ } ويوفرون على المنذور { وَ } كيف لا يوفون أولئك الموفقون ، مع أنهم { يَخَافُونَ يَوْماً } وأيّ يوم ، يوماً { كَانَ شَرُّهُ } شدائده وأهواله { مُسْتَطِيراً } [ الإنسان : 7 ] طائراً منتشراً بين عموم العباد ؟ ! { وَ } من كمال استغراقهم بمطالعة وجهه الكريم { يُطْعِمُونَ ٱلطَّعَامَ } أي : الرزق الصوري والمعنوي ، المسوق لهم من عنده سبحانه تقويةً وتقويماً ، ترحيباً وتكريماً { عَلَىٰ حُبِّهِ } طلباً لمرضاته { مِسْكِيناً } أسكنه الفقر ، وأزعجه إلى المعاونة والسؤال { وَيَتِيماً } أدركه الذل ، وأحوجه إلى الافتقار { وَأَسِيراً } [ الإنسان : 8 ] أذلَّه الصغار والهوان ، وأفقره إلى الرعاية والترحم . عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن الحسن والحسين - سلام الله وصلواته على جدهما وولديهما وعليهما - مرضا مرضاً هائلاً فعادهما رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس ، فقالوا : يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك ، فنذر علي وفاطمة - على النبي وعليهما وابنيهما الصلاة والسلام - وفضة جارية لفاطمة صوم ثلاثة أيام إن برئا ، ثمَّ لمَّا برئا صاموا وما معهم شيء ، واستقرض عليّ من شمعون الخيبري ثلاثة آصع من الشعير ، فطحنت فاطمة صاعاً ، وخبزت خمسة أقراص على عدد رءوسهم ، فوضعوا بين أيديهم ليفطروا ، فجاء على الباب مسكين ، فأعطوا له وآثروه على أنفسهم ، وباتوا ولم يذوقوا إلاَّ المَّاء ، وأصبحوا صياماً . فلمَّا فعلوا كذلك ، فألمّ عليهم يتيم فآثروه كذلك ، فأصبحوا صياماً ، ففعلوا في اليوم الثالث مثل ذلك ، فجاء أسير ، فأعطوه فباتوا بلا طعام ، فنزل جبريل بهذه الآية فقال : هنأك الله في أهل بيتك يا نبي الله . ثمَّ لمَّا أضمروا في نفوسهم ومناجاتهم حين صدور هذا الإحسان عنهم طلب مرضاة الله ، وتثبيتاً لهم على دينه وطاعته ، وتشويقاً منهم إلى لقائه ، نزل في حقهم على وفق ما نووا : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ } أي : ما نطعمكم أيها المحتاجون إلاَّ { لِوَجْهِ ٱللَّهِ } الكريم ، وطلباً لمرضاته ؛ إذ { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً } ليصير عوضاً ؛ لإطعامنا لوجه الله الكريم { وَلاَ شُكُوراً } [ الإنسان : 9 ] ما لنا من الشكر والجزاء أمر . وكيف يتأتى منَّا طلب الشكر والجزاء ؛ إذ قدرتنا على إطعامكم إنما هي بإقدار الله إيانا ، وإعطاؤنا إنما هي من عطاياه ؟ ! وبالجملة : { إِنَّا نَخَافُ } بطلب الأجر والجزاء { مِن } غضب { رَّبِّنَا } بنا { يَوْماً } وأيّ يوم ، يوماً { عَبُوساً } تعبس فيه مطلق الوجوه من شدة هوله ، بل صارت { قَمْطَرِيراً } [ الإنسان : 10 ] في غاية الشدة والعبوسية ، سيما على أهل الرياء والسمعة ، الطامعين بصدقاتهم الذكر الجميل ، والثناء الجزيل ، مع أنهم إنما يعطون من مال الله لعيال الله . وبعدما أخلصوا لله ، وخافوا من عذابه { فَوَقَٰهُمُ ٱللَّهُ } الحكيم الحفيظ { شَرَّ ذَلِكَ ٱلْيَومِ } أي : فرفع عنهم شره ، وأبدله لهم خيراً { وَلَقَّاهُمْ } أي : لقى لهم يومهم { نَضْرَةً } طراوة وصفاء في وجوههم { وَسُرُوراً } [ الإنسان : 11 ] وبهجة في قلوبهم . { وَ } بعدما فعلوا ما فعلوا خالصاً لوجه الله { جَزَاهُمْ } سبحانه { بِمَا صَبَرُواْ } وحبسوا نفوسهم عن مشتهيات المنهيات والمحرمات ، وعلى أداء الواجبات ، وإيثار الأموال والأرزاق المسوق نحوهم ؛ لطلب المرضاة { جَنَّةً } مصورة من صالحات أعمالهم وحالاتهم ومقاماتهم ، يتلذذون فيها باللذات الروحانية أبد الآباد { وَ } يلبسون فيها { حَرِيراً } [ الإنسان : 12 ] متخذاً من حلل الأسماء والصفات التي لا يتصور فيها الحول والخشونة أصلاً . { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَىٰ ٱلأَرَائِكِ } يعني : مستظهرين فيها بالألطاف الإلهية ، مستظلين بكنف حفظه وجواره ، بحيث { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً } أي : حرارتها المؤذية لهم { وَلاَ زَمْهَرِيراً } [ الإنسان : 13 ] أي : البرودة المضرة ، بل تعتدل فيها الهواء والأهواء ؛ لتعديلهم الأخلاق والأعمال والأحوال . { وَ } ليس ظلال الجنة بعيدة عنهم ، بل كانت { دَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا } الموعودة لهم من قِبَل الحق { وَ } لهم فيها ثمَّار متجددة ، متلونة من أنواع المعارف والحقائق اللدنية المترتبة على أشجار الأسماء والصفات الإلهية التي اتصفوا بها ، وتخلقوا بمقتضاها ، ولا تكون تلك الأشجار وأثمَّارها ، وأغصانها الكثيرة بعيدة آبية عنهم بعدما اتصفوا بها ، بل { ذُلِّلَتْ } وسخرت { قُطُوفُهَا } ثمَّارها لهم { تَذْلِيلاً } [ الإنسان : 14 ] بحيث منتى أرادوا تلذذوا بها بلا تردد ؛ إذ كمالاتهم كلها حينئذٍ بالفعل بلا انتظار لم أياها ، وترقب لها .