Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 81, Ayat: 15-29)
Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
وبعدما عدَّ سبحانه أحوال القيامة وأهوالها أشار إلى ما يدل على التأكيد والمبالغة في وقوعها فقال : { فَلاَ أُقْسِمُ } أي : لا حاجة إلى القسم ؛ لإثبات هذه المذكورات ؛ إذ هي في غاية السهولة والظهور عند القدرة الغالبة الإلهية ، بل أقسم { بِٱلْخُنَّسِ } [ التكوير : 15 ] أي : بالنفوس الزكية عن لوث الناسوت ، الراجعة إلى عالم اللاهوت ، وحضرة الرحموت قبل قيام الساعة ؛ لصفاء مشربها ، ونظافة طينتها . { ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } [ التكوير : 16 ] أي : أقسم أيضاً بنفوس الشطار الطائرين إلى الله ، المختفين تحت قباب عزه ، وشمس ذاته ، بحيث لا يعرفهم أحد سواه سبحانه . { وَ } حق { ٱللَّيْلِ } أي : عالم العماء الإلهي { إِذَا عَسْعَسَ } [ التكوير : 17 ] أقبل ظلامه واشتد ، بحيث اختفى فيه عموم ما ظهر وبطن . { وَ } بحق { ٱلصُّبْحِ } أي : عالم الجلاء المنعكس من ذلك العماء اللاهوتي { إِذَا تَنَفَّسَ } [ التكوير : 18 ] أي : أضاء وأشرق على أهل الفناء الفانين عن الفناء ، المتعطشين يزلان البقاء . { إِنَّهُ } يعني : أقسم سبحانه بهذه المقسمات العظيمة أن القرآن { لَقَوْلُ رَسُولٍ } مرسل من قِبَل الله { كَرِيمٍ } [ التكوير : 19 ] متصف بالكرامة والأمانة ؛ يعني : العقل الكل المسمّى بجبريل . { ذِي قُوَّةٍ } غالبة على حمل الوحي الإلهي { عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ } العظيم المحيط بعروش عموم المظاهر { مَكِينٍ } [ التكوير : 20 ] ذي مرتبة عظيمة . { مُّطَاعٍ ثَمَّ } أي : في عالم الأسماء والصفات ؛ إذ عموم المدارك والقوى تابعة مطيعة للعقل الكلي الذي هو حضرة العلم الإلهي ، ولوح قضائه { أَمِينٍ } [ التكوير : 21 ] حفيظ على الوحي الإلهي بالتوفيق الإلهي ، بحيث لا يشذ عنه شيء من أوامره ونواهيه . { وَ } أيضاً أقسم سبحانه بتلك المقسمات على أنه { مَا صَاحِبُكُمْ } الذي نزل عليه هذا إلاَّ أمين بهذا الكتاب المبين ؛ يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { بِمَجْنُونٍ } [ التكوير : 22 ] ومختل القوى والآلات ، كما زعمتم ؛ إذ زعمكم هذا بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم إنما هو من غاية انحطاطكم عن رتبته ، وجهلكم بمكانته ، وإلاَّ فهو صلى الله عليه وسلم في أعلى طبقات الإدراك . { وَ } كيف لا يكون صلى الله عليه وسلم في أعلى طبقات الإدراك والمعرفة { لَقَدْ رَآهُ } يعني : علم وعرف صلى الله عليه وسلم جبريل الذي هو العقل الكل { بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } [ التكوير : 23 ] الذي هو حضرة العلم الإلهي ، ولوح قضائه ؟ ! { وَمَا هُوَ } صلى الله عليه وسلم { عَلَى ٱلْغَيْبِ } الذي أطلعه الحق عليه من المعارف والحقائق ، والرموز والإشارات المتعلقة بتصفية الظاهر والباطن ، وتخلية السر والضمير عن الالتفات إلى الغير مطلقاً { بِضَنِينٍ } [ التكوير : 24 ] بخيل شحيح ، سيما بعدما أمره سبحانه بنشرها وتبليغها ، وما هو على المغيبات التي نطق بها بمقتضى الوحي الإلهي ، وإلهامه بظنين منهم ، يتهمه أحد ، وينسبه إلى الافتراء المستبعد عن علو شأنه ، ورفعة قدره ومكانه صلى الله عليه وسلم بمراحل . { وَ } كذا { مَا هُوَ } يعني : القرآن الذي هو تكلم به ، ونزل عيه { بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } [ التكوير : 25 ] أي : ما هو شعر وكهانة ناشئة من شياطين الوهم والخيال ، كما زعمه أهل الزيغ والضلال المترددين في أودية الجهل والغفلة ، وهاوية العناد و الجدال . وبعدما لاح عظم شأن القرآن ، ورفعة قدره ، وعلو مكانته { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } [ التكوير : 26 ] تعدلون وتنصرفون عن جادة العدالة الإلهية أيها الضالون المضلون ؟ . { إِنْ هُوَ } أي : ما هذا القرآن العظيم { إِلاَّ ذِكْرٌ } عظة كبيرة { لِّلْعَالَمِينَ } [ التكوير : 27 ] أي : لعموم من جُبل على فطرة التذكر ، وقابلية الإرشاد والتكميل . { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } [ التكوير : 28 ] أي : عظة وتذكير لمن قصد الاستقامة على صراط العدالة الإلهية ، تذكر به واتعظ ؛ لإرشاده وهدايته . { وَ } غاية ما في الباب : إنه { مَا تَشَآءُونَ } وتختارون طريق الهداية والرشاد لأنفسكم { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } هدايتكم ، ويوفقكم على الاستقامة والرشاد عنايةً منه وفضلاً ؛ إذ عموم أفعالكم إنما هي مستندة إلى الله ، صادرة منه سبحانه أصالة ؛ إذ هو سبحانه { رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } [ التكوير : 29 ] لا مربي في الوجود سواه ، ولا مدِّبر في الشهود إلاَّ هو ، ومقتضى تربيته وتكميله : إرشاد عباده وتوفيقهم إلى ماهو أصلح لهم ، وأليق بحالهم . وفقنا بفضلك وجودك بما تحب وترضى أنت عنَّا يا مولانا . خاتمة السورة عليك أيها الطالب لتوفيق الحق ، وتربيته على الوجه الأصلح الأليق أن تفوِّض عموم أمورك ، وأعمالك وأحوالك كلها إلى مشيئة الله ، وتسلمها إليه سبحانه طوعاً ورغبةً بلا توهم تخيير واختيار منك ، وإرادة جزئية أو كلية ؛ إذ ليس لك من الأمر شيء ، بل الأمور الجارية كلها لله ، وبمقتضى تقديره وقضائه ، وليس لك إلاَّ التسليم والرضا بجميع ما جرى عليك من القضاء . وإياك إياك الاغترار بحياة الدنيا ، الفرار الفرار ، وما فيها من المزخرفات الخداعة المكارة ، فإنها دار العتو والاعتبار ، لا منزل الإقامة والقرار ، واللائق بحال الفطن الذكي ألاَّ يتمكن فيها إلاَّ على وجه الضرورة والاضطرار ، ولا على سبيل الرضا والاختيار . جعلنا الله ممن تثبه ببطلان الدنيا الدنيَّة وعموم ما فيها ، وعدم ثباتها وقرارها .