Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 85, Ayat: 10-22)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وبالجملة : { إِنَّ } المسرفين المفسدين { ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ } وأحرقوا { ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } ظلمّاً وعدواناً ، كراهة هدايتهم وإيمانهم { ثُمَّ } بعدما فعلوا من الإفراط والإسراف { لَمْ يَتُوبُواْ } إلى الله ، ولم يرجعوا نحموه سبحانه عن ظلمهم ، ولم يستغفروا نادمين { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ } الطرد والحرمان عن حضور الحنَّان المنَّان { وَلَهُمْ } ولحق بهم ؛ بسبب كفرهم بالله ، وإنكارهم توحيده { عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ } [ البروج : 10 ] بدل ما فعلوا بالمؤمنين من حرقهم في الأخاديد . ثمَّ عقب سبحانه وعيدهم بوعد المؤمنين فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } بوحدة الحق { وَ } أكدوا إيمانهم بأن { عَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } المقرونة بالإخلاص في النيات { لَهُمْ } عند ربهم جزاء إيمانهم وأعمالهم تفضلاً عليهم { جَنَّاتٌ } منتزهات العلم والعين والحق { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } جداول المعارف والحقائق المنتشئة من بحر الحقيقة ، وبالجملة : { ذَلِكَ } القوم العظيم الشأن ، البعيد رفعةً ومكانةً عن أفهام الأنام هو { ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ } [ البروج : 11 ] والفضل العظيم الذي لا فوز أعظم منه وأرفقع . ثمَّ أشار سبحانه إلى تهديد أصحاب الضلال ، المنحرفين عن جادة الاعتدال ، مخاطباً لحبيبه صلى الله عليه وسلم فقال : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ } يا أكمل الرسل ، وأخذه بالعنف لعصاة عباده المائلين عن سبيل سداده ، وجادة رشاده { لَشَدِيدٌ } [ البروج : 12 ] بحيث لا يقال على شدة بطشه ، وتضاعف عذابه وانتقامه . وكيف يقاس على بطشه ، ويقاوم مع أخذه { إِنَّهُ } سبحانه { هُوَ } القادر الغالب الذي { يُبْدِىءُ } ويظهر عموم المظاهر والموجودات من كتم العدم بالقدرة الغالبة الكاملة ، ثمَّ يخفي ويعدم كلها أيضاً بكمال قدرته { وَيُعِيدُ } [ البروج : 13 ] ويخرج عن فضاء الظهور مرة بعد أخرى بمقتضى قدرته واختياره ، فكيف يقاوم ويقاس مع قدرته سبحانه هذه ؟ ! وكيف يطيق أحد أن يقوم بمعارضته - تعالى شأنه أن يُعارض حكمه ، ويُنازع سلطانه - يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، لا يُسأل عن فعله ، إنه حكيم حميد ؟ ! { وَهُوَ } سبحانه بمقتضى سعة جوده ورحمته { ٱلْغَفُورُ } الستار المحاء لذنوب من تاب ورجع نحوه مخلصاً نادماً ، وإن كبرت وكثرت ، فإن رحمته أوسع منه وأشمل { ٱلْوَدُودُ } [ البروج : 14 ] المحب لإخلاص المذنبين ، وتوبة المستغفرين ، وضراعة الخائفين المخبتين ، المستحيين من الله ، النادمين على ما صدر عنهم وقت الغفلة والغرور . وكيف لا يود ولا يغفر سبحانه ، مع أنه { ذُو ٱلْعَرْشِ } المستوي على عروش ما ظهر وبطن بالاستيلاء التام ، والاستقلال الكامل { ٱلْمَجِيدُ } [ البروج : 15 ] العظيم في ذاته وصفاته ، وأسمائه وأفعاله ؛ إذ لا وجود لسواه ، ولا كون لغيره . فظهر أنه { فَعَّالٌ } بالاستقلال الاختيار { لِّمَا يُرِيدُ } [ البروج : 16 ] وجميع الأفعال الجارية في ملكه وملكوته صادرة عنه باختياره ، وبلا شركة فيها ومظاهرة ؛ إذ لا يجري في ملكه إلاَّ ما يشاء بمقتضى علمه الشامل ، وحكمته الكاملة ، سواء كان إنعاماً أو انتقاماً . ثمَّ أشار سبحانه إلى تسلية حبيبه صلى الله عليه وسلم ، وحثه على الصبر بأذيات قومه وتكذيبهم إياه مكابرةً فقال : { هَلُ أَتَاكَ } أي : قد أتاك ووصل إليك ، وثبت ذلك عندك يا أكمل الرسل بالتواتر { حَدِيثُ ٱلْجُنُودِ } [ البروج : 17 ] أي : أخبار الأمم السالفة ، وقصة تكذيبهم للرسل والكتب ، وانتامنا عنهم بعدما بلغ أذيات الرسل غايتها . يعني : { فِرْعَوْنَ } الطاغي الباغي وملئه ، كيف كذبوا أخاك موسى الكليم عليه السلام ، وكيف قصدوا لمقته وهلاكه مراراً ، وكيف انتقمنا عنهم واستأصلناهم { وَثَمُودَ } [ البروج : 18 ] المردود ، كيف كذبوا أخاك صالحاً عليه السلام ، وكيف انتقمنا عنهم ، تذكر يا أكمل الرسل قصصهم مع رسلهم ، وما جرى عليهم من لدنَّا ، فاصبر على ما أصابك من قومك ، فإن ذلك من عزم الأمور ، فسننتقم عنهم ، مثلما انتقمنا من الأمم السالفة الهالكة . { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } بك وبكتابك { فِي تَكْذِيبٍ } [ البروج : 19 ] أعظم من تكذيب الماضين ، إنهم سمعوا قصصهم ، وما جرى عليهم بشؤم تكذيبهم فلم يعتبروا ، ولم ينزجروا ، فسيلحقهم أشد مما لحقهم من العذاب عاجلاً وآجلاً . { وَ } بالجملة : { ٱللَّهُ } المطلع لعموم ما جرى في ضمائرهم من الكفر والشقاق { مِن وَرَآئِهِمْ } أي : وراء هوياتهم الباطلة ، وتعيناتهم العاطلة { مُّحِيطٌ } [ البروج : 20 ] لهم بالإحاطة الذاتية ، بحيث لا يفوت منه سبحانه شيء من جرائمهم وآثامهم ، سيجازيهم عليها بمقتضى إحاطته ، وهم منكرون إحاطته ؛ لذلك ينكرون كتابه الجامع لجميع الكمالات الدنيوية والأخروية ، الغيبية والشهادية ، ينسبونه إلى الشعر والكهانة ، وأنواع التزويرات والمفتريات الباطلة عناداً ومكابرةً ، مع أنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ } فرقان بين الحق والباطل ، والهداية والضلال { مَّجِيدٌ } [ البروج : 21 ] عظيم عند الله مبين ، مبيِّن لأحكام الدين المستبين . مثبت { فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 22 ] هو حضرة العلم الإلهي ، ولوح قضائه المصون عن مطلق التحريف والتغيير . جعلنا الله ممن تنور بنور الإيمان ، وانكشف بحقية القرآن الفرقان . خاتمة السورة عليك أيها الموحد المحمدي ، المنكشف بحقية القرآن - هداك الله إلى حقيقته - أن تعتقد إلى أن تنكشف أن مطلق الحوادث الجارية في عالم الكون والفساد ، إنما هو مثبت في لوح القضاء المصون عن سمت التبديل والتغيير ؛ إذ ما يبدل القول والحكم لدى القادر الحكيم العليم . والتصرفات الواقعة في عالم الملك والملكوت إنما هي مرفوعة مرسومة فيه على وجهها ، بحيث لا يشذ شيء منها عنه ، والقرآن المجيد منتخب منه ، حاوٍ على عموم ما ثبت فيه إجمالاً . ومن أدركته العناية السرمدية ، وجذبته الجذبة الأحدية تفطن من رموز القرآن إلى نور الأسرار والمعارف التي فصلها الحق في لوح قضائه ، وحضرة علمه ، لكن الواصل إلى هذه المرتبة العليَّة أقل من القليل . وبالجملة : فكن راجياً من الله الجميل ، ولا تيأس من روح الله ، إنه لا ييأس من روح الله إلاَّ القوم الخاسرون .