Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 1-1)

Tafsir: Ḥāšīyat aṣ-Ṣāwī ʿalā tafsīr al-Ǧalālayn

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { سُبْحَانَ } هو في الأصل مصدر سماعي لسبح المشدد ، أو اسم مصدر له ، صم صار علماً على التنزيه ، أي وعلى كل ، فهو مفعول مطلق لفعل محذوف تقديره أسبح ، فالمقصود منه إما التنزيه فقط ، أي تنزيه من هذا وصفه عن كل نقص ، لأن هذه معجزة لم تسبق لغيره صلى الله عليه وسلم ، أو المقصود التعجب فقط ، على حد سبحان الله ، المؤمن لا ينجس ، أي عجباً لباهر قدرة فاعل هذا الفعل وكماله ، أو التنزيه مع التعجب ، كأنه قال : عجباً لتنزيه الله تعالى عن كل نقص ، حيث صدر منه هذا الفعل العجيب الخارق للعادة . قوله : { ٱلَّذِى } اسم موصول مضاف لسبحان ، والموصول وإن كان مبهماً ، إلا أنه تميز بالصلة ، فإن هذه الصلة ليست لغيره تعالى ، سيما مع تصدير الجملة بالتسبيح الذي هو مختص بالله قوله : { أَسْرَىٰ } هو وسرى فعل لازم ، بمعنى سار في الليل ، فالهمزة ليست للتعدية إلى المفعول . قوله : { بِعَبْدِهِ } لم يقل بنبيه ولا برسوله ، إشارة إلى أن وصف العبودية ، أخص الأوصاف وأشرفها ، لأنه إذا صحت نسبة العبد لربه ، بحيث لا يشرك به في عبادته له أحداً ، فقد فاز وسعد ، ولذا ذكره الله في المقامات الشريفة كما هنا ، وفي مقام الوحي قال تعالى : { فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىٰ } [ النجم : 10 ] وفي مقام الدعوة قال تعالى ، وأنه لما قام عبدالله يدعوه الخ ، ولذا قال القاضي عياض : @ ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً @@ وهناك وجه آخر ، وهو خلاف ضلال أمته به ، كما ضلت أمة عيسى به حيث قالوا : ابن الله ، وقوله : { بِعَبْدِهِ } أي بروحه وجسمه على الصحيح ، خلافاً لمن قال : إن الإسراء بالروح فقط ، ونقل عن عائشة وهو مردود ، بأنها كانت حديثه السن إذ ذاك ، ولم تكن في عصمته صلى الله عليه وسلم . قوله : ( محمد ) إنما لم يصرح به لعلمه من السياق ، ومن سبب النزول . قوله : ( وفائدة ذكره ) أي مع علمه من ذكر الإسراء . قوله : ( إلى تقليل مدته ) أي فقيل قدر أربع ساعات ، وقيل ثلاث ، وقيل قدر لحظة ، قال السبكي في تائيته : وعدت وكل الأمر في قدر لحظة . قوله : { مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } { مِّنَ } لابتداء الغاية . قوله : ( أي مكة ) إنما فسره بذلك ، ليصدق بكل من القولين وهما : هل كان مضطجعاً في المسجد ، أو في بيت أم هانىء وفي الحقيقة لا تخالف ، لأنه على القول بأنه كان في بيت أم هانىء ، ولقد احتملته الملائكة ، وجاؤوا به إلى المسجد ، وشقوا صدره هناك ، ثم أتوا له بالبراق بعد ذلك ، فلم يحصل الإسراء إلا من المسجد ، فالأولى للمفسر ، أن يبقي الآية على ظاهرها ، وكان المسجد إذ ذاك بقدر المطاف ، ثم وسعه الملوك . وأول من وسع فيه ، عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فكانوا يشترون دور مكة ويدخلونها فيه . قوله : { إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا } هو أول مسجد بني في الأرض بعد الكعبة ، بناه آدم بعد أن بنى الكعبة بأربعين سنة ، والحكمة في الإسراء به إلى بيت المقدس ، ليظهر شرفه على جميع الأنبياء والمرسلين ، لأنه صلى بهم إماماً في مكانهم ، وشأن الذي يتقدم على الإنسان في بيته ، يكون هو السلطان ، لأن السلطان له التقدم على غيره مطلقاً ، وليسهل على أمته المحشر ، حيث وضع قدمه فيه ، فإن الخلق يحشرون هناك . قوله : ( بيت المقدس ) من إضافة الموصوف لصفته ، أي البيت المقدس ، أي المطهر من عبادة غيره تعالى ، ولذا لم يعبد فيه صنم قط . قوله : { ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } أي بركة دنيوية بالثمار والأنهار كما قال المفسر ، وأما في داخله فليست مختصة به ، بل البركة في كلا المسجدين ، بل هي أتم في المسجد الحرام . قوله : { لِنُرِيَهُ } اللام للحكمة ، أي حكمة إسرائنا به رؤيته من آياتنا ، وعامة القراء على قراءته بالنون ، وقرأ الحسن ليريه بالياء ، فعلى الأول يكون في الكلام التفاتان ، الأول من الغيبة للمتكلم في قوله : { بَارَكْنَا } و { لِنُرِيَهُ } ، الثاني في قوله : { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } وعلى الثاني يكون فيه أربع التفاتات : الأول من الغيبة في قوله : قوله : { بِعَبْدِهِ } إلى التكلم في قوله : { بَارَكْنَا } . الثاني من التكلم إلى الغيبة في { لِنُرِيَهُ } . الثالث من الغيبة إلى التكلم في قوله : { مِنْ آيَاتِنَآ } . الرابع من التكلم إلى الغيبة في قوله : { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } ومن في قوله : { مِنْ آيَاتِنَآ } للتبعيض ، أي لنريه بعض آياتنا ، وإنما أتى بها تعظيماً لآيات الله ، أي أن محمداً ، وإن ما رأى ، من الآيات العظيمة والعجائب الفخيمة ، فهو بعض بالنسبة لآيات الله ، وعجائب قدرته ، وجلائل حكمته . إن قلت : إن ما هنا يقتضي التبعيض ، وقوله تعالى في حق إبراهيم { وَكَذَلِكَ نُرِيۤ إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 75 ] أنه لا تبعيض ، فظاهر هذا ، أن ما رآه إبراهيم ، أكثر مما رآه محمد ، وهو خلاف الإجماع . أجيب : بأن ملكوت السماوات والأرض ، بعض الآيات العظيمة التي رآها محمد ، فإبراهيم رأى بعض البعض . قوله : { إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } المشهور أن الضمير عائد على الله تعالى ، أي هو السميع للأقوال ، البصير بالأحوال والأفعال ، وقيل الضمير عائد على النبي صلى الله عليه وسلم ، وحكمة الإتيان بهذين الوصفين ، الثناء على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث شاهد ما شاهد ، وسمع ما سمع ، ولم يزغ بصره ، ولم يدهش سمعه ، فهو نظير قوله تعالى : { مَا زَاغَ ٱلْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ } [ النجم : 17 ] إشار إلى علو مقامه ورفعة شأنه ، ولذا قال العارف البرعي : @ وإن قابلت لفظة لن تراني بما كذب الفؤاد فهمت معنى فإن الله كلم ذاك وحيا وكلم ذا مشافهة وأدنى @@ إلى أن قال : @ فموسى خر مغشياً عليه وأحمد لم يكن ليزيغ ذهنا @@ قوله : ( على اجتماعه بالأنبياء ) أي الرسل وغيرهم وصلوا خلفه . قوله : ( وعروجه إلى السماء ) أي صعوده إليها محفوفاً بالملائكة الكرام . قوله : ( ورؤية عجائب الملكوت ) أي كالملائكة والجنة والنار . واعلم أن العوالم أربع : عالم الملك وهو ما نشاهده ، وعالم الملكوت وهو ما خفي عنا ، وعالم الجبروت وهو العلوم والأسرار ، وعالم العزة وهو ما لا يمكن التعبير عنه كذات الله ، ويسمى سر سر السر . قال السدي البكري : وبسرسر سرك الذي لا تنفي بالافصاح عن حقيقته الرقائق . قوله : ( ومناجاته له تعالى ) أي شفاها مع رفع الحجاب . قوله : ( فإنه صلى الله عليه وسلم ) الخ ، القصد على ذلك تفصيل ما أجمل في الآية الكريمة ، وقد اختلفت الروايات في الإسراء والمعراج جداً ، وقد اقتصر المفسر على هذه الرواية ، لكونها رواية البخاري ومسلم . قوله : ( أتيت بالبراق ) أي بعد أن جاءه جبريل وميكائيل ومعهما ملك آخر ، فاحتملوه حتى جاؤوا به زمزم ، فأضجعوه وشقوا من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه ، وأخرجوا قلبه وغسلوه ثلاث مرات ، ثم ملؤوه حلماً وعلماً ويقيناً وإسلاماً ، ثم أطبقوه وختموا بين كتفيه بخاتم النبوة ، ثم أتى بالبراق بضم الباء مأخوذة من البرق لسرعة سيره ، أو من البريق لشدة لونه ولمعانه ، وهو من جملة أربعين ألف براق ، ترتع في ربض الجنة معدة له صلى الله عليه وسلم . قوله : ( دابة ) أي ليست ذكراً ولا أنثى ، وفي الاستعمال يجوز التذكير ، باعتبار كونه مركوباً ، ويؤنث باعتبار كونه دابة . قوله : ( فوق الحمار ودون البغل ) أي وهو متوسط بينهما ، قوله : ( عند منتهى طرفه ) هو بسكون الراء البصر . قوله : ( فركبته ) أي وكان جبريل عن يمينه آخذاً بركابه ، وميكائيل عن يساره آخذاً بزمام البراق . قوله : ( حتى أتيت بيت المقدس ) في هذه الرواية اختصار ، وزيد في غيرها ، أنه نزل بالمدينة ومدين وطور سيناء وبيت لحم ، فصلى في كل موضع ركعتين ، بأمر من جبريل عن الله ، لتحصل زيادة بركته لتلك الأماكن ، وليقتدي به غيره في العبادة بالأماكن المشرفة ، ورأى بين كل موضع والآخر ، عجائب مذكورة في قصة النجم الغيطي . قوله : ( فربطت الدابة ) يقال ربط يربط من باب ضرب شده . قوله : ( بالحلقة ) بسكون اللام ويجوز فتحها ، والربط تعليماً للاحتياط في الأمور ، وإشارة إلى أن الأخذ في الأسباب لا ينافي التوكل قوله : ( التي تربط فيها الأنبياء ) أي الذين كانوا يأتون بيت المقدس لزيارته ، وفي رواية أن جبريل أخذ البراق من الباب وأدخله المسجد ، وخرق الصخرة بأصبعه وربط البراق فيها . قوله : ( فصليت فيه ركعتين ) أي إماماً بالأنبياء أجساداً وأرواحاً ، والملائكة وأرواح المؤمنين ، وهذه الصلاة لم يعلم كونها فرضاً أو نفلاً ، غاية ما يقال إنه أمر بها وهو مطيع ، وفي الحديث اختصار ، لأنه طوى ذكر صلاة الركعيتن تحية المسجد ، حين اجتمع جمع الأنبياء والملائكة وأرواح المؤمنين ، ويحتمل أن الركعتين المذكورتين في الحديث هما تحية المسجد ، وطوى ذكر الركعيتن اللتين أم فيهما الناس . قوله : ( فجاءني جبريل ) أي حين أخذني من العطش أشد ما أخذني . قوله : ( أصبت الفطرة ) أي الخلقة الأصلية وهي فطرة الإسلام ، وفي بعض الروايات أن جبريل قال له : ولو اخترت الخمر لغوت أمتك ولم يتبعك منهم إلا قليل ، وفي رواية إن الآنية كانت ثلاثاً والثالث فيه ماء ، وأن جبريل قال له : ولو اخترت الماء لغرقت أمتك . قوله : ( قال ) أي الراوي وهو أنس بن مالك ، خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم . قوله : ( ثم عرج بي ) أي بعد أن أتي بالمعراج ، ووضع على صخرة بيت المقدس ، وهو سلم له عشر مراق : إحداها من ذهب ، والأخرى من فضة ، وأحد جانبيه من ياقوتة حمراء ، والآخر من ياقوتة بيضاء ، وهو مكلل بالدر ، سبع منها للسماوات السبع ، والثامثة للسدرة ، والتاسعة للكرسي ، والعاشرة إلى العرش ، فلما هما بالصعود ، نزلت المرقاة التي عند السماء الدنيا ، فركباها وصعدت بهما إلى محلها ، ثم نزلت الثانية لهما وهكذا . قوله : ( إلى الدنيا ) أي وهي من موج مكفوف ، والثانية من مرمرة بيضاء ، والثالثة من حديد ، والرابعة من نحاس ، والخامسة من فضة ، والسادسة من ذهب ، والسابعة من ياقوتة حمراء ، والكرسي من ياقوتة بيضاء ، والعرش من ياقوتة حمراء ، وأبواب السماوات كلها من ذهب ، وأقفالها من نور ، ومفاتيحها اسم الله الأعظم . قوله : ( فاستفتح جبريل ) أي طلب الفتح من الملك الموكل بالباب ، وحكمة غلقها إذ ذاك ، لزيادة الإكرام بالسؤال والترحيب له صلى الله عليه وسلم . قوله : ( قيل من أنت ) الخ ، فيه اختصار ، وفي الرواية المشهورة قيل مرحباً به وأهلاً ، حياه الله من أخ ومن خليفة ، فنعم الأخ ونعم الخليفة ، ونعم المجيء جاء . قوله : ( قيل وقد أرسل إليه ؟ ) المعنى أجاء وقد أرسل إليه ؟ إن قلت : إن رسالته ليست خافية عليهم حتى يسألوا عنها . أجيب : بأن المراد أرسل إليه للعروج إلى السماوات والمكالمة . قوله : ( فإذا أنا بآدم ) في بعض الروايات : وعن يمينه أسودة وباب يخرج منه ريح طيبة ، وعن يساره أسودة وباب يخرج منه ريح خبيثة ، فإذا نظر قبل يمينه ضحك واستبشر ، وإذا نظر قبل شماله حزن وبكى ، فسأل جبريل عن ذلك فقال : هذه الأسودة نسم بنيه ، والباب الذي عن يمينه باب الجنة ، والذي عن يساره باب النار ، فإذا رأى من يدخل قبل يمينه ضحك ، وإذا رأى من يدخل قبل يساره بكى . قوله : ( فرحب بي ) أي قال مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح . قوله : ( ثم عرج بنا ) أي أنا مع جبريل . قوله : ( بابني الخالة ) فيه مسامحة ، إذ عيسى ابن بنت خالة يحيى ، ويحيى ابن خالة أم عيسى ، لأن عيسى ابن مريم وهي بنت حنة ، وحنة أخت اشاع ، واشاع أم يحيى ، وقد اتصف عيسى بصفات الملائكة ، لا يأكل ولا يشرب ولا ينام . قوله : ( شطر الحسن ) أي نصفه ، والنصف الآخر قسم بين جميع الخلق وحسنه صلى الله عليه وسلم ، غير ذلك الحسن الذي أعطي يوسف شطره ، إذ هو غير منقسم ، ولم يعط منه شيء لغيره ، قال البوصيري : @ منزه عن شريك في محاسنه فجوهر الحسن فيه غير منقسم @@ قوله : ( بإدريس ) وهو أول من خاط الثياب ، وقبل ذلك كانوا يلبسون الجلود . قوله ( بهارون ) في بعض الروايات : ونصف لحيته سوداء ونصف لحيته بيضاء ، وذلك من مسك أخيه موسى لها ، حين جاء ووجد قومه قد عبدوا العجل . قوله : ( فإذا أنا بموسى ) في بعض الروايات : وحوله نفر من أمته ، أكثر ممن يدخل الجنة من أمتي ، فلو أنه في نفسه لم أبال ، وفي رواية أنه سأل الله تعالى أن يجعله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فأجابه الله . قوله : ( بإبراهيم ) أي خليل الرحمن ، فقال لي : مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح ، ودعا لي بخير وقال : أقرىء أمتك مني السلام ، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة عذبة الماء ، وأن غراسها : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر . قوله : ( وإذا هو ) القصد من ذلك بيان أن الملائكة لا يعلم عدتهم إلا الله ، قال تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] . قوله : ( ثم ذهب بي ) أي عرج بين ، لأن هذا هو المعراج الثامن . قوله : ( إلى سدرة المنتهى ) أي إلى أعلاها ، فإن السدرة أصلها في السماء السادسة ، وأغصانها وفروعها فوق السماء السابعة . قوله : ( كآذان الفيلة ) أي في الشكل ، وإلا فكل ورقة تظلل هذه الأمة . قوله : ( كالقلال ) جمع قلة وكانت معلومة عند المخاطبين ، وفي بعض الروايات كقلال هجر ، وهي بلدة القلة فيها كالري الكبير . قوله : ( فلما غشيها ) أي قام بها من الحسن والبهاء . قوله : ( قال فأوحى ) فيه اختصار ، أي ثم رفع إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام ، وهو المعراج التاسع ، ثم دلى الرفرف فزج به في النور ، فعند ذلك تأخر جبريل فقال له : أهنا يفارق الخليل خليله ؟ فقال له : هذا مكاني فلو فارقته لاحترقت من النور ، أي ذهب نوري وتلاشيت لشدة الأنوار وظهورها ، قال رسول الله : فخاطبني ربي ورأيته بعيني بصري وأوحى الخ . قوله : ( ما أوحى ) أبهم ذلك إشارة إلى عظم ما أوحى به إليه ، وعدم إحاطة جميع الخلق به ، قال البوصيري : @ فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم @@ قوله : ( وفرض علي ) الخ ، عطف خاص على عام ، وإنما صرح به لتعلقه بالأمة ، وأما عطاياه التي تخصه فلم يعبر عنها ، إذ لا تحيط بها العبارة ولا تحصيها الإشارة ، وقوله : ( عليّ ) أي وعلى أمتي لأن الأصل عدم الخصوصية إلا لدليل يدل على التخصيص ، فذكر الفرض عليه يستلزم الفرض على أمته . قوله : ( فنزلت ) أي ومررت على إبراهيم فلم يقل شيئاً . قوله : ( إلى موسى ) أي في السماء السادسة ، والحكمة في أن موسى اختص بالمراجعة دون غيره من الأنبياء ، أن أمته كلفت من الصلوات بما لم يكلف به غيرها فثقلت عليهم ، فرفق موسى بأمة محمد صلى الله عليه وسلم لكونه طلب أن يكون منها ، وأيضاً فقد طلب موسى الرؤية فلم ينلها ، ومحمد نالها من غير طلب ، فأحب مراجعته وتردده ليزداد من نور الرؤية ، فيقتبس موسى من تلك الأنوار ، ليكون رائياً من رأى ، قال ابن الفارض : @ أبق لي مقلة لعلي يوماً قبل موتي أرى بها من رآك @@ وفي هذا المعنى قال ابن وفا : @ والسر في قول موسى إذ يردده ليتجلى النور فيه حيث يشهده يبدو سناه على وجه الرسول فيا لله حسن جمال كان يشهده @@ قوله : ( وخبرتهم ) أي جربتهم ، حيث كلفهم الله بركعتين في الغداة ، وركعتين في وقت الزوال ، وركعتين في العشي ، فلم يطيقوا ذلك وعجزوا عنه . قوله : ( قال فرجعت إلى ربي ) أي إلى المكان الذي ناجيت فيه ربي ، وليس المراد أن الله في ذلك المكان ورجع له ، فإن اعتقاد ذلك كفر ، بل المراد أن الله جعل هذا المكان محلاً لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يناجيه فيه ، ليجمع له بين الرفعتين الحسية والمعنوية . قوله : ( ويحط عني ) أي الله تعالى ، فجملة المرات تسع ، وكل مرة يرى فيها ربه كما رآه في المرة الأولى ، فقد رأى ربه في تلك الليلة عشر مرات . قوله : ( حتى قال ) الخ هذا حديث قدسي من هنا إلى قوله : ( كتبت سيئة واحدة ) . قوله : ( بكل صلاة عشر ) أي في المضاعفة والثواب ، فقد تفضل سبحانه وتعالى بتكثير الثواب على تلك الخدمة القليلة . قوله : ( ومن هم بحسنة ) المراد بالهم ترجيح الفعل دون عزم وتصميم ، لأنه الذي يكتب في الخير ولا يكتب في الشر ، وأما العزم والتصميم فيكتب في الخير والشر ، وأما الهاجس والخاطر وحديث النفس ، فلا يؤاخذ الإنسان بها ، لا في خير ولا في شر ، وقد نظم بعضهم الخمسة بقوله : @ مراتب القصد خمس هاجس ذكروا فخاطر فحديث النفس فاستمعا يليه همّ كلها رفعت سوى الأخير ففيه الأخذ وقد وقعا @@ قوله : ( فنزلت ) في بعض الروايات إن الله قال له : قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي . قوله : ( استحييت ) ببائين بعد الحاء المهملة . قوله : ( رواه الشيخان ) أي البخاري ومسلم . والمعنى رويا معنى حديث الإسراء واتفقا عليه . قوله : ( واللفظ لمسلم ) أي وأما البخاري ففيه تغيير لبعض الألفاظ . قوله : ( رأيت ربي ) أي بعيني رأسي ، وأُتي بهذا الحديث تتميماً للقصة ، ثم بعد تمام الأمر ، هبط من السماوات السبع إلى بيت المقدس ، فركب البراق وأتى مكة قبيل الصبح ، فلما أصبح قطع ، وعرف أن الناس تكذبه ، فقعد حزيناً ، فمر أبو جهل فجلس إليه فقال له كالمستهزىء هل كان من شيء ؟ قال : نعم أسري بي الليلة ، قال : إلى أين ؟ قال : إلى بيت المقدس ، قال : ثم أصبحت بين أظهرنا ؟ قال : نعم ، فقال أبو جهل : إذا دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني به ؟ قال نعم ، فقال : يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا ، فجاؤوا حتى جلسوا إليهما ، فحدثهم صلى الله عليه وسلم بذلك : بقي الناس بين مصفق ، وواضع يديه على رأسه متعجباً ، وضجوا لذلك وعظموه ، فجاء أبو بكر فحدثه صلى الله عليه وسلم بذلك فقال : صدقت صدقت ، فقالوا : أتصدقه إنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس ، وجاء قبل أن يصبح ؟ فقال : نعم أني لأصدقه فيما هو هو أبعد من ذلك ، أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة ، فلذلك سمي الصديق ، فقال القوم : صف لنا بيت المقدس ، فشرع في وصفه ، حتى إن جبريل نقله من مكانه ووضعه بين يديه صلى الله عليه وسلم ، وجعل ينظر إليه ويصف لهم ، فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب ، ثم قالوا : أخبرنا عن عيرنا ، فأخبرهم عنها تفصيلاً ، فقالوا : إن هذا لسحر مبين ، فأنزل الله تعالى { وَمَا جَعَلْنَا ٱلرُّءْيَا ٱلَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [ الإسراء : 60 ] .