Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 110-114)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن أهل الامتحان بالافتتان ، فقال تعالى : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ } [ النحل : 110 ] إشارة إلى طالب صادق هاجر نفسه وأعرض عن متابعة هواها وترك شهواتها واستيفاء حظوظها ، وأقبل على الله بصدق الطلب وبذل الجهد من بعد الافتتان بتحصيل شهوات النفس ويتبع هواها في مخالفة أوامر الحق ونواهيه { ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ } [ النحل : 110 ] أي : جاهدوا النفس على تزكيتها عن صفاتها الذميمة بموافقة الشريعة ومخالفة الطبيعة وموافقة الطريقة ، وصبر على مقاساة شدائد الرياضات والمجاهدات تحت تصرفات المشايخ متمسكاً بذيل إرادتهم ملازماً بصحبتهم من إقبال إشارتهم مشمراً بنجدتهم { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } [ النحل : 110 ] أي : من بعد الخلاص عن الفتنة ومخالفة النفس وهواها والإقبال على الله { لَغَفُورٌ } يغفر لهم ما سلف منهم من السيئات ويبدلها بالحسنات في تزكية النفس وتبديل أخلاقها { رَّحِيمٌ } [ النحل : 110 ] برحمة المشاهدة بعد المجاهدة . وفي قوله : { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا } [ النحل : 111 ] إشارة إلى أحوال أرباب النفوس أن كل نفس على قدر بقاء وجودها تجادل عن نفسها إما دفعاً لعنادها أو جذباً لمنافعها حتى الأنبياء - عليهم السلام - يقولون : نفسي نفسي إلا محمداً صلى الله عليه وسلم ذاته ، فانٍ عن نفسه باقٍ بربه يقول : " أمتي أمتي " لأنه المغفور له من ذنب وجوده المتقدم في الدنيا ، والمتأخر في الآخرة بما فتح الله له ليلة المعراج ، إذ المواجهة بخطاب : " السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته " تغني عن وجوده بالسلام ، وبقى بجوده بالرحمة بوجوده ، وكان رحمة مهداة أرسل بركاته إلى الناس كافة ، ولكنه رفع الزلة من تلك الضيافة خاصة بخواص متابعة ، كما قال : " السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين " يعني : الذين صلحوا لبذل الوجود في طلب المقصود ونيل الجود فما بقي لهم مجادلة عن نفوسهم مع الخلق والخالق ، كما قال بعضهم : كل الناس يقولون غداً : نفسي نفسي وأنا أقول : ربي ربي . وفي قوله : { وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ النحل : 111 ] إشارة إلى أن كل نفس عملت سوء توفى بالعذاب بنار الجحيم ونار القطيعة ، وكل نفس عملت خيراً توفى في الثواب من نعيم الجنان ولقاء الرحمن { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } [ النحل : 111 ] أي : لا يكذب أهل النعيم ولا يثاب أهل الجحيم . ثم أخبر عن أهل كفران النعمة وما أصابهم من المحبة بقوله : { وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً } [ النحل : 112 ] إشارة إلى قرية شخص الإنسان كانت آمنة أي : أهل القرية وهو الروح الإنساني والقلب { مُّطْمَئِنَّةً } [ النحل : 112 ] اطمئنان بذكر الله { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } [ النحل : 112 ] من الطاعات والعبادات { رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ } [ النحل : 112 ] روحاني وجسماني { فَكَفَرَتْ } [ النحل : 112 ] النفس الأمارة { بِأَنْعُمِ ٱللَّهِ } [ النحل : 112 ] بنعم الطاعات والتوفيق واتبعت هواها وتمتعت بشهواتها . { فَأَذَاقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلْجُوعِ } [ النحل : 112 ] بسدل الحجب النفسانية ، وسد الطرق الروحانية ، وقطع مواد التوفيق ، فانقطع عن الروح والقلب والنفس مبرة الحق ، فأكلوا من جيفة الدنيا وميتة المستلذات ، وقوله : { وَٱلْخَوْفِ } [ النحل : 112 ] هو خوف العذاب والانقطاع عن الله { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] من كفران النعمة وتتبع الشهوة والتمتع بالدنيا الدنية . وفي قوله : { وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ } [ النحل : 113 ] إشارة إلى رسول الخاطر الروحاني المؤيد بالإلهام الرباني فكذبوه وما قبلوا منه ما أمرهم من الأخلاق الحميدة التي بعث الله تعالى النبي صلى الله عليه وسلم لإتمامها على وفق الشرع { فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ } [ النحل : 113 ] عذاب الخذلان والهجران { وَهُمْ ظَالِمُونَ } [ النحل : 113 ] . وفي قوله : { فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً } [ النحل : 114 ] إشارة إلى الطالبين الصادقين التائبين على قدم صدق في الطلب ، الصابرين على مقاساة شدائد المجاهدات بتناول ما رزقهم الله من أنوار الشريعة ، وأسرار الطريقة ، وحقائق الحقيقة التي أعرض عنها وحرمها على أنفسهم أرباب النفوس من البطلة والجهلة . { وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ } [ النحل : 114 ] وهي الإيمان وتوفيق الطاعات ، وصدق الطلب ، وظهور شواهد الحق ، والترقي في الدرجات ، وعبور المقامات ومزيد الأحوال ، وأما شكر هذه النعم برؤيتها عن المنعم ، واستعمالها في طلب المنعم للوصول إلى المنعم لا بحصول النعم { إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ النحل : 114 ] تطلبون إياه لأمته .