Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 105-109)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
فلما نفى الافتراء عن النبي صلى الله عليه وسلم استدل بقوله : { إِنَّمَا يَفْتَرِي ٱلْكَذِبَ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } [ النحل : 105 ] ووجه الاستدلالات الافتراء ، فإن نفس المؤمن مأمورة ، لوامة ، مستلهمة من الله ، مطمئنة بذكر الله ، ناظرة بنور الله ، موفقة بآيات الله ؛ لأن الآيات لا تُرى إلا بنور الله ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " المؤمن ينظر بنور الله " فإذا كان من شأن المؤمن ألا يفتري الكذب إذ هو ينظر بنور الله ، فكيف يكون من شأن رسول الله أن يفتري الكذب وهو نور من الله ينظر بالله . ثم اختص الكذب لمن لا يؤمن بآيات الله ، فقال : { وَأُوْلـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } [ النحل : 105 ] أي : هم المنتسبون إلى الكذب الحقيقي الذي صار اسم العلم لهم بأنهم كذبوا على الله وكذبوا بآياته ، وكذبوا على النبي صلى الله عليه وسلم وكذبوا به وبما جاء به ، وكذبوا بالقرآن والمعجزات ، وفيه إشارة إلى أن الكذبات التي تقع في أثناء كلام من يؤمن بالله ورسله وكتبه ولا يكذب عليهم ولا يكذب بهم ، فإنها ليست من الكذب الذي يفتري من لا يؤمن بآيات الله وإنه مخصوص بمن يفتري على الله الكذب ، وإن الكذبات التي تقع للمؤمن وهي من جملة المعاصي لا تخرجه من الإيمان ، وإن ينقص بها الإيمان ثم بالتوبة يرجع الإيمان إلى أصله كسائر المعاصي والذنوب ، يدل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم : " ما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً " فثبت أن المؤمن يبغض الكذب في بعض الأوقات إذا لم يكن مصراً عليه ويتوب . ثم أخبر عن صاحب الإيمان أنه لا يكفر بإظهار الكفر مكرها مع الاطمئنان بالإيمان بقوله تعالى : { مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ } [ النحل : 106 ] إشارة إلى مريد يتنسم روائح نفحات الحق بمشام القلب عند هبوبها واحتكاك أهوية عالم الباطن وانخراق سحب حجب البشرية ، فلمع كبرق أضأت به آفاق سماء القلب وإشراق أرض البشرية ، فآمن بحقية الطلب واحتمال التعب والنصب ، فاستوقد نار الشوق والمحبة ، فلما أضأت ما حوله وبذل في الاجتهاد جده وحوله هبت نكباء النكبات ، وبهذا صدأت المرآة ، ذهب الله بنوره وانخمدت نار الشوق ، فآل المشئوم إلى طبعه ، فانطبقت السحب ، وأسدلت الحجب فكفر بالنعمة بعد أن أسر بالمحبة . ثم استند الطالب الصدى من جملتهم والمريد العاشق من زمرتهم ، فقال : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِٱلإِيمَانِ } [ النحل : 106 ] أي : أكره على مباشرة فعل يخالف الطريقة من معاملات أهل الطبيعة ، فيوافقهم فيها بالظاهر ، ويخالفهم بالباطن حتى يتخلص من شؤم صحبتهم ، ثم أكد بالوعيد حال من صار بعدما كان فقال : { وَلَـٰكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً } [ النحل : 106 ] أي : نكص على عقبيه راضياً وكفران النعمة على شكرها ، وأعرض عن الله بالإقبال على الهوى { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ ٱللَّهِ } [ النحل : 106 ] أي : قهر وخذلان منه { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ النحل : 106 ] بالانقطاع عن الله العلي العظيم . ثم أخبر عن سبب الخذلان فقال : { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسْتَحَبُّواْ ٱلْحَيَاةَ ٱلْدُّنْيَا عَلَىٰ ٱلآخِرَةِ } [ النحل : 107 ] أي : اختاروا محبة الدنيا وشهواتها على محبة الله والشوق إلى لقائه . { وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي } [ النحل : 107 ] إلى حضرته { ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ } [ النحل : 107 ] بنعمته { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } [ النحل : 108 ] بكفران النعمة ؛ لئلا يفقهوا بها ألطاف الحق { وَسَمْعِهِمْ } [ النحل : 108 ] لئلا يسمعوا بها كلام الحق { وَأَبْصَارِهِمْ } [ النحل : 108 ] لئلا يبصروا بها لقاء الحق { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْغَافِلُونَ } [ النحل : 108 ] عما أعد الله لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ هُمُ ٱلْخَاسِرونَ } [ النحل : 109 ] يعني : أهل الغفلة في الدنيا هم أهل الخسارة في الآخرة ، وفيه إشارة أخرى وهي التغافل بالأعضاء عن العبودية يورث خسران القلوب عن مواهب الربوبية .