Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 43-50)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وفي قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 43 ] إشارة إلى أن الرسالة والنبوة والولاية لا تسكن إلا في قلوب الرجال الذين { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ } [ النور : 37 ] وهم أهل الذكر الذي قال الله فيهم : { فَٱسْأَلُواْ أَهْلَ ٱلذِّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] فإنهم الرجال في طلب الحق وترك ما سواه وإنهم يعرفون الرجال ليتبينوا { بِٱلْبَيِّنَاتِ } [ النحل : 44 ] التي من خصائص نور الذكر { وَٱلزُّبُرِ } [ النحل : 44 ] يعني : فيما قرءوا في الكتب ، ثم جعل الله نبيه وحبيبه أهل الذكر وشرفه بقوله : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلذِّكْرَ } [ النحل : 44 ] يعني : كان يصعد الذكر إلينا بمقتضى قولنا : { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ } [ البقرة : 152 ] أنزلنا إليك ذكرنا { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] بنور ذكرنا { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [ النحل : 44 ] ما نزل إليهم بنور ذكرنا { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } [ النحل : 44 ] فيما يستمعون من بيان القرآن والأحكام منك على أنك أمي ما قرأت الكتب المنزلة ، ولا تعلمت العلوم . وإنما يتبين لهم من نور الذكر ما يجعلهم يلازمون الذكر ويواظبون عليه ليصلوا إلى مقام المذكورين في متابعتك ورعاية سنتك . ثم أخبر عن المنكرين الماكرين الممكورين تهديداً لهم بقوله : { أَفَأَمِنَ ٱلَّذِينَ مَكَرُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ } [ النحل : 45 ] أي : آمنوا بمكر الله أن يمكر بهم بشؤم سيئات مكرهم أن يخسف الله بهم الأرض ؛ أي : أرض البشرية ودركات السفل { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ } [ النحل : 45 ] بالمكر والاستدراج { مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النحل : 45 ] أنه من أين آتاهم من قبل الأعمال الآخرة بالرياء أو من أعمال الآخرة إلى الدنيا بالهوى الدنيوية أو من قبل الأعمال الأخروية { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ } [ النحل : 46 ] من أعمال الدنيا { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } [ النحل : 46 ] أي : بمعجز الله على تعذيبهم { أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ } [ النحل : 47 ] أي : ينقص من مقاماتهم ودرجاتهم بلا شعورهم عليه { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 47 ] بالعباد إذا أعطاهم حسن الاستعداد رحيم عليهم عند فساد استعداداهم بالمعاصي بألاَّ يأخذهم في الحال ويتوب عليهم في المآل ، وتقبل توبتهم بالفضل والنوال . ثم أخبر عن الإجلال لسجود الظلال { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } [ النحل : 48 ] يشير إلى أن المخلوقات على نوعين : منها ما خلق من شيء كعالم الخلق وهو عالم الأجسام ، ومنها ما خلق من غير شيء كعالم الأمر وهو عالم الأرواح ، كما قال تعالى : { أَلاَ لَهُ ٱلْخَلْقُ وَٱلأَمْرُ } [ الأعراف : 54 ] دائماً سمي عالم الأرواح بالأمر ؛ لأنه خلقه بأمر كن من غير شيء بلا زمان ، كما قال الله تعالى : { خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] يعني : خلقت روحك من قبل خلق جسدك { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] . ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بألفي ألف عام " { يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ النحل : 48 ] يتفيأ الظلال إلى ما أودع الله في كل شيء من عالم الأجسام خاصية ، وهي ظل ذلك الشيء يميل بها عن يمين السعادة أهل الشقاوة ، وهم أصحاب اليمين أو عن شمال الشقاوة أهل الشقاوة وهم أصحاب الشمال ، وهذه الخواص في الأشياء ، ويسجدون لله انقياداً لما خصهم به مسخرين متذللين ، وإنما وحد اليمين وجمع الشمال ؛ لغلبة أصحاب الشمال على أصحاب اليمين ، ثم خرج به . وقال : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } [ النحل : 49 ] بل يتذللون لكل شيء من بين يدي صانعه ساجد سجود يلائم حاله كما أن كل شيء يسبح بحمده تسبيحاً يلائم حاله ، فتسبيح بعضهم بلسان المقال ، وتسبيح بعضهم بلسان الحال ، والله يعلم لسان حالهم كما لسان مقالهم . واعلم أن الله تعالى أعطى لكل شيء من أصناف المخلوقات من الحيوانات إلى الجمال سمعاً وبصراً ولساناً وفهماً به يسمع كلام الحق ويبصر شواهد الحق ويكلم الحق ويفهم إشارته ، كما أخبر الله تعالى عن حال السماوات والأرض وهما في العدم أعطاهما سمعاً به سمعا قوله : { ٱئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } [ فصلت : 11 ] وأعطاهما فهماً به فهما كلامه وأعطاهما لساناً به قالتا : { أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] فكل شيء يسبح الله بذلك اللسان ويسجد له بذلك الطوع ، فمن هذا اللسان الملكوت بمعجزة النبي صلى الله عليه وسلم كانت الحصى تسبح له في يده ، وكذلك الأحجار الثلاثة كلمت داود عليه السلام ، وأوبت الجبال معه لما قال تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَـٰكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] .