Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 70-75)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن بني آدم وحاله من الكرامة وما عليه من الغرامة بقوله تعالى : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ } [ الإسراء : 70 ] أي خصصناهم بكرامة تخرجهم عن حيز الإشراك وهي على ضربين : جسدانية ، وروحانية . * فالكرامة الجسدانية : عامة يستوي فيها المؤمن والكافر وهي تخمير طينته بيده أربعين صباحاً ، وتصويره في الرحم بنفسه ، وأنه تعالى صوره فأحسن صورته وسواه فعدله في أي : صورة ما شاء ركبه ، ومشاه سوياً على صراط مستقيم القامة آخذاً بيديه آكلاً بأصابعه مزيناً باللحى والذوائب صانعاً بأنواع الحرف . * والكرامة الروحانية : على ضربين : عامة ، وخاصة . فالعامة : أيضاً يستوي فيها المؤمن والكافر وهي أن كرمه بنفخه فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها ، وكلمه قبل أن خلقه بقوله : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ } [ الأعراف : 172 ] فأسمعه خطابه وأنطقه بجوابه بقوله : { قَالُواْ بَلَىٰ } [ الأعراف : 172 ] وعاهده على العبودية ، وأولده على الفطرة ، وأرسل إليه الرسل وأنزل عليه الكتب ودعاه إلى الحضرة ، ووعده الجنة وخوَّفه النار ، وأظهر له الآيات والدلالات والمعجزات . والكرامة الروحانية الخاصة : ما كرم به أنبياءه وأولياءه وعباده المؤمنين من النبوة والرسالة والولاية والإيمان للإسلام والهداية إلى الصراط المستقيم ، وهو صراط الله والسير إلى الله وفي الله وبالله عند العبور على المقامات والترقي من الناسوتية بجذبات اللاهوتية ، والتخلق بأخلاق الإلهية عند فناء الأنانية وبقاء الهوية . كما قال تعالى : { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [ الإسراء : 70 ] أي : عبرنا بهم عن بر الجسمانية وبحر الروحانية إلى ساحل الربانية { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } [ الإسراء : 70 ] وهي المواهب التي طيبها من الحدوث فيطعم بها من يبيت عنده ويسقيه بها ، وهي طعام المشاهدات وشراب المكاشفات التي لم يذق منها الملائكة المقربون ، أطعم بها أخص عباده في أواني المعرفة ، وسقاهم بها في كاسات المحبة أفردهم بها عن العالمين ؛ ولهذا أسجد لهم الملائكة المقربين . وقال تعالى : { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 70 ] يعني : على الملائكة ؛ لأنهم الخلق الكثير من خلق الله تعالى ، وفضل الإنسان الكامل على الملك بأنه خلقه في أحسن تقويم وهو حسن استعداده في قبول فيض نور الله بلا واسطة ، وقد تفرد به الإنسان عن سائر المخلوقات . كما قال تعالى : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ } [ الأحزاب : 72 ] أي : على أهلها { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } [ الأحزاب : 72 ] الأمانة هي نور الله كما صرح به في قوله : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ النور : 35 ] إلى أن قال : { نُورٍ يَهْدِي ٱللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } [ النور : 35 ] فافهم جدّاً واغتنم فإن هذا البيان أعز من الكبريت الأحمر وأغرب من عنقاء مغرب . ثم أخبر عن المقبولين منهم والمردودين بقوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] يشير إلى ما يتبعه كل قوم وهو إمامهم ، فقوم : يتبعون الدنيا وزينتها وشهواتها فيدعون يا أهل الدنيا ، وقوم : يتبعون الآخرة ونعيمها ودرجاتها فيدعون : " يا أهل الآخرة " ، وقوم : يتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم محبة لله وطلباً لقربته ومعرفته فيدعون : " يا أهل الله " { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [ الإسراء : 71 ] فهو أهل السعادة من أصحاب اليمين فيه إشارة إلى أن السابقين الذين هم أهل الله لا يؤتون كتابهم كما لا يحاسبون حسابهم . ثم قال : { فَأُوْلَـٰئِكَ يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ } [ الإسراء : 71 ] لأنهم أصحاب البصيرة والقرآن والدراية { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ الإسراء : 71 ] في جزاء أعمالهم الصالحة فيه إشارة إلى أن أهل الشقاوة الذين هم أصحاب الشمال لا يقرءون كتابهم ؛ لأنهم أصحاب العمى والجهالة { وَمَن كَانَ فِي هَـٰذِهِ } [ الإسراء : 72 ] أي : في هذه القراءة والدراية بالبصيرة { أَعْمَىٰ } [ الإسراء : 72 ] في الدنيا لقوله : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى ٱلأَبْصَارُ وَلَـٰكِن تَعْمَىٰ ٱلْقُلُوبُ } [ الحج : 46 ] { فَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ أَعْمَىٰ } [ الإسراء : 72 ] لأنها { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } [ الطارق : 9 ] فيجعل الوجوه من السرائر فمن كان في سريرته أعمى هاهنا يكون في صورته أعمى للمبالغة ؛ لأن عمل السريرة هاهنا كان قابلاً للتدارك . وقد خرج ثمة الأمر من التدارك فيكون الأعمى عن رؤية الحق { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } [ الإسراء : 72 ] في الوصول إليه لفساد الاستعداد وإعواز التدارك . ثم قال : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ } [ الإسراء : 73 ] أي : من عمى قلوبهم كادوا ليسترونك { عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [ الإسراء : 73 ] بالتغيير والتبديل { لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ } [ الإسراء : 73 ] أي : وفق طباعهم في الضلالة وميلان نفوسهم إلى الدنيا وهي الضلالة عن الهدى { وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً } [ الإسراء : 73 ] إذ وافقتهم في الضلالة { وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ } [ الإسراء : 74 ] بالقول الثابت وهو قول : لا إله إلا الله إلى أن بلغناك مقام معرفة حقيقة لا إله إلا الله بقولنا : { فَٱعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ ٱللَّهُ } [ محمد : 19 ] وطهرنا قلبك من لوث صفات البشرية { لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ } بها إن لم يطهرك عنها بقولنا : { وَٱسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ } [ محمد : 19 ] { شَيْئاً قَلِيلاً } وإنما سماه قليلاً ؛ لأن روحانية النبي صلى الله عليه وسلم كانت في أصل الخلقة غالبة على بشريته مؤيدة بتأييد : " أول ما خلق الله روحي " إذ لم يكن مع روحه { شَيْئاً قَلِيلاً } ما يحجبه عن الله فشرفه بتشريف " كنت نبيّاً وآدم بين الماء والطين " فمعنى الكلام : لولا التثبيت وقوة النبوة ونور الهداية وأثر نظر العناية ، لكنت تركن إلى أهل الأهواء بهوى النفسانية بمنافع الإنسانية قدراً يسيراً لغلبة الروحانية وخمود نار البشرية . ثم قال : { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ } [ الإسراء : 75 ] يعني : بشؤم ميل نفسك إلى الباطل ورغبتها عن الخلق نحي نفسك ، وأذقناك عذاب حياتها واستيلائها وغلبتها على روحك ونميت قلبك ، وأذقناك عذاب مماته وضعف روحك وعجزه وبعده عن الحق { ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } [ الإسراء : 75 ] يمنع عذابنا منك .