Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 16-20)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم بقوله تعالى : { وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ ٱللَّهَ فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ } [ الكهف : 16 ] يشير إلى أن التائب الصادق ، والطالب المحق من اعتزل عن قومه وترك أهل صحبته ، وقطع عن إخوانه شؤونه واعتقد إلا يعبد إلا الله ، ولا يطلب إلا الله ، ولا يحب إلا الله ، يعرض عما سوى الله ، مستعيناً بالله ، متوكلاً على الله ، مُنفراً إلى الله من غير الله ، ثم يأوي إلى كهف الخلوة متمسكاً بذيل إرادة شيخ كامل مكمل واصل موصل ؛ ليربيه ويزيد في هدايته ويربط على قلبه بقول الولاية وقوة الرعاية ، كما كان حال أصحاب الكهف ، ولكنهم كانوا مجذوبين من الله مربوبين بربهم وذلك من النوادر ، ولا حكم للنادر هذا من قدرة الله أن يهدي جماعة إلى الإيمان بلا واسطة رسول أو نبي ويجذبهم بجذبات العناية إلى مقامات القرب ومحل الأولياء بلا شيخ مرشد وهاد مربي ، ومن سنته تعالى أن يهدي عباده بالأنبياء والرسل وبخلافتهم ونيابتهم بالعلماء الراسخين والمشايخ المقتدين . ففي قوله : { فَأْوُوا إِلَى ٱلْكَهْفِ } [ الكهف : 16 ] إشارة إلى الالتجاء بالحق والتمسك بالمشايخ المكملين يعني بهذه الطريقة { يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } [ الكهف : 16 ] أي : يخصصكم برحمته الخاصة المضافة إلى نفسه وهو أن يجذبهم بجذبات العناية ويدخلهم في عالم الصفات ليتخلقوا بأخلاقه ويتصفوا بصفاته كقوله تعالى : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [ الشورى : 8 ] وله تعالى رحمة عامة مشتركة بين المؤمن والكافر والجن والإنس والحيوان . { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً } [ الكهف : 16 ] أي : ييسر لكم طريق الوصول والوصال . ثم أخبر عن أصناف ألطافه بأضيافه بقوله تعالى : { وَتَرَى ٱلشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } [ الكهف : 17 ] يشير إلى أن نور ولايتهم ، وهو نور زاده الله على أنوار هدايتهم وإيمانهم ، كما قال : { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } [ الكهف : 13 ] يغلب على نور الشمس ويرده عن الكهف كما يغلب نور المؤمن على نار جهنم فيطفئها لقوله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن إذا ورد النار تستغيث النار ، وتقول : جز يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي " ، { ذَاتَ ٱلْيَمِينِ } [ الكهف : 17 ] أي : يمين الكهف { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ ٱلشِّمَالِ } [ الكهف : 17 ] أي : تدعهم جانب شمال الكهف { وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } [ الكهف : 17 ] أي : متسع وفراغ من ذلك النور يدفع عنهم كل ضرر وآفة ، ويراعيهم عن بلى أجسادهم وثيابهم { ذٰلِكَ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } [ الكهف : 17 ] أي : من دلالاته وكراماته التي يظهرها على أوليائه ويخصصهم بخصائص { مَن يَهْدِ ٱللَّهُ فَهُوَ ٱلْمُهْتَدِ } [ الكهف : 17 ] أي : فهو الذي اهتدى بهداية الله إياه فلن يقدر على إضلاله أحد { وَمَن يُضْلِلْ } [ الكهف : 17 ] أي : يضلل { فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } [ الكهف : 17 ] غير الله أي : فلن يقدر على هدايته أحد . { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً } [ الكهف : 18 ] لما رأيت على سيماء وجوههم منه فلك النور { وَهُمْ رُقُودٌ } [ الكهف : 18 ] وفيه إشارة إلى إفنائهم عن وجودهم وإبقائهم بوجودهم الحق لا هم كالنيام ولا هم كالرقود { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ ٱليَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِ } [ الكهف : 18 ] أي : بين الإفناء والإبقاء ، والترقي من مقام إلى مقام ، ومن حال إلى حال أي : بلغناهم مبلغ الرجال البالغين ووصلوا إلى درجات المقربين فيه إشارة لطيفة وهي : أن المريد الذي يربيه الله تعالى بلا واسطة المشايخ يحتاج إلى أن يكون كالميت بين يدي الغسال مستسلماً نفسه بالكلية إليه مدة ثلاثمائة سنة وتسع سنين حتى تبلغ مبلغ الرجال ، والمريد الذي يربيه الله بواسطة المشايخ لعله يبلغ مبلغ الرجال البالغين بخلوة أربعين يوماً أو خلوتين أو خلوات معدودة ، وذلك أن هؤلاء خلفاء الله وصورة لطفه كما أن الأشجار في الجبال ترقى بلا واسطة فلا تثمر كما تثمر الأشجار في البساتين بواسطة الدهاقين وتربيتهم . { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِٱلوَصِيدِ } [ الكهف : 18 ] يشير إلى أن كلب نفوسهم نائمة معطلة عن الأعمال التي بها تربية القلوب والأرواح ، كما جرت بها السنة الإلهية - يعني هذه التربية - على هذا النوع من قبيل القدرة الإلهية التي هي أمارة أهل الولاية والكرامة في حقهم . { لَوِ ٱطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } [ الكهف : 18 ] بما شاهدت عليهم من آثار الأنوار التي زدناهم ، وألقينا عليهم جلابيب العظمة بتجلي صفات جلالنا ، وألبسناهم بلباس الهيئة الإلهية { وَكَذٰلِكَ بَعَثْنَاهُمْ } [ الكهف : 19 ] أحييناهم بنور وصالنا وأغرقناهم في لجج بحر الوحدانية فدهشوا بسطوات ما ربطنا على قلوبهم { لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ } [ الكهف : 19 ] عند الرجوع من استغراق بحر الوصال إلى سواحل نفوسهم { قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } [ الكهف : 19 ] لأن أيام الوصال قصيرة ، وأيام الفراق طويلة ، فلما رأوا أنهم بعد في خبرة الأحوال ودهشة الوصال { قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } [ الكهف : 19 ] لأنه كان حاضراً معكم وأنتم غيب عنكم ، فالعجب كل العجب لما كانوا ثلاثمائة وتسع سنين في مقام عندية الحق خارجين من عنديتهم ما احتاجوا إلى طعام الدنيا لتغنوا عن غذاء الجسمانية بألوان غذاء الروحانية ، كما كان حال النبي صلى الله عليه وسلم كان يواصل الأيام ، ويقول : " أبيت عند ربي يطعمني ويسقين " فلما رجعوا من عندية الحق إلى عندية نفوسهم احتاجوا في الحال إلى غذاء نفوسهم قالوا : { فَٱبْعَثُواْ أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَـٰذِهِ إِلَىٰ ٱلْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ } [ الكهف : 19 ] ففي طلبهم { أَزْكَىٰ طَعَاماً } [ الكهف : 19 ] وأطيب إشارة إلى أن أرباب الوصول وأصحاب المشاهدة لما شهدوا ذلك الجمال والبهاء ، وذاقوا طعم الوصال ، ووجدوا حلاوة الأنس وملاطفات الحبيب ، فإذا رجعوا إلى عالم النفوس تطالبهم الأرواح والقلوب بأغذيتهم الروحانية فيتعللون بمشاهدة كل جميل ؛ لأن كل جميل من جمال الله وكل بهاء من بهاء الله ، ويتوسلون بلطافة الأطعمة إلى تلك الملاطفات كما قالوا : { فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ } [ الكهف : 19 ] أي : في الطعام { وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً } [ الكهف : 19 ] فيه إشارة إلى الاحتراز عن شعور أهل الغفلة بأحوال أرباب المحبة ، فإن لهم في النهاية أحوال كفر عند أهل البداية ، كما قال أبو عثمان المغربي : إرفاق العارفين باللطف وإرفاق المريدين بالعنف . { إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ } [ الكهف : 20 ] يعني : أهل الغفلة { يَرْجُمُوكُمْ } [ الكهف : 20 ] بالملامة فيما يشاهدون منكم يا أهل المعرفة من وسعة الولاية وقوتها ، واستحقاق التصرف في الكونين وانعدام تصرفها فيكم ، فإنهم بمعزل عن بصيرة يشاهدون بها أحوالكم ، فمن قصر نظرهم يطعنون فيكم أو يريدون أن { يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } [ الكهف : 20 ] وهي عبادة أصنام الهوى وطواغيت شهوات الدنيا وزينتها ، فإن رجعتم إليها { وَلَن تُفْلِحُوۤاْ إِذاً أَبَداً } [ الكهف : 20 ] .