Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 8-15)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

وبقوله قال : { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] يشير إلى أن أسباب حصول الولد منفية من الوالدين بالعقر والكبر وهي من السنة الإلهية ، فإن من السنة أن يجعله يخلق الله الشيء من الشيء كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ } [ الأعراف : 185 ] ومن القدرة أنه تعالى يخلق الشيء من لا شيء ، فقوله : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } [ مريم : 8 ] أمن السنة أو من القدرة . فأجابه الله تعالى بقوله : { قَالَ كَذٰلِكَ } [ مريم : 9 ] أي : الأمر لا يخلو من السنة أو القدرة ؟ وفي قوله : { قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 9 ] إشارة إلى أن كلا الأمرين عليَّ هين إن شئت أدت إليكما أسباب حقول الولد من القوة على الجماع وفتق الرحم بالولد كما جرت به السنة ، وإن شئت أخلق لك ولداً من لا شيء بالقدرة ، كما { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] أي : خلقت روحك من قبل جسدك من لا شيء بأمر كن ، ولهذا قال تعالى : { قُلِ ٱلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي } [ الإسراء : 85 ] وهو أول مقدور تعلقت القدرة به . واعلم أن من قوله تعالى : { إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ } [ مريم : 3 ] إلى تمام الآيات إشارة أخرى وهي : إن زكريا الروح نادى ربه { نِدَآءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] سر الس . { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ ٱلْعَظْمُ مِنِّي } [ مريم : 4 ] أعظم عظم الروحانية { وَٱشْتَعَلَ ٱلرَّأْسُ شَيْباً } [ مريم : 4 ] أي : شيب صفات البشرية { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ } [ مريم : 4 ] بموهبة الولد { رَبِّ شَقِيّاً * وَإِنِّي خِفْتُ ٱلْمَوَالِيَ } [ مريم : 4 - 5 ] أي : صفات النفس أن تغلب { وَكَانَتِ ٱمْرَأَتِي } [ مريم : 5 ] أي : الجثة الجسدانية التي هي زوجة الروح { عَاقِراً } [ مريم : 5 ] أي : لا يلد إلا بموهبة من الله ، { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } [ مريم : 5 ] وهو في الحقيقة القلب الذي هو معدن العلم اللدني ، فإنه ولي الروح والنفس التي هي أعدى عدوة . { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } [ مريم : 6 ] أي : يتصف بصفة الروح وجميع الروحانيات . { وَٱجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً } [ مريم : 6 ] أن تعطيه من تجلي صفات ربوبيتك ما يرضى به نظيره ، قوله : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ } [ الضحى : 5 ] فأجابه الله تعالى بقوله : { يٰزَكَرِيَّآ } [ مريم : 7 ] الروح { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ } [ مريم : 7 ] وهو القلب { ٱسْمُهُ يَحْيَىٰ } [ مريم : 7 ] بإحياء الله إياه بنوره كما قال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً } [ الأنعام : 122 ] فيه إشارة إلى أن من لم يحييه الله ولم يجعل له نوراً فهو ميت ، قوله : { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } [ مريم : 7 ] أي : موصوفاً بصفة لا من الحيوانات ولا من الملائكة قبله وهي قبول فيض الألوهية بلا واسطة كما قال تعالى : " لا يسعني أرضي ولا سمائي وإنما يسعني قلب عبدي المؤمن " ألا وهي سر حمل الأمانة التي ضاق أهل السماوات والأرض عند حملها . { قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } [ مريم : 8 ] أي : قلب بهذه الصفة . { وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ ٱلْكِبَرِ } [ مريم : 8 ] أي : بطول زمان التعلق بالقالب . { عِتِيّاً } [ مريم : 8 ] أي : يبساً وجفافاً من غليان صفات النفس . { قَالَ كَذٰلِكَ } [ مريم : 9 ] أي : هكذا الأمر { قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 9 ] لأني قادر على أن أحي الموتى ، وأن أجعل من ازدواج الروح والقالب قلباً حيّاً يحيى بحياتي { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ } [ مريم : 9 ] من لا شيء { وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } [ مريم : 9 ] لا روحانياً ولا جسمانياً { قَالَ رَبِّ ٱجْعَل لِيۤ آيَةً } [ مريم : 10 ] أهتدي بها إلى كيفية عمل القالب العاقر بالقلب الحي الذي يحيى في ذلك { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ ٱلنَّاسَ } [ مريم : 10 ] أي : لا تخاطب غير الله ولا تلتفت إلى ما سواه { ثَلاَثَ لَيَالٍ } [ مريم : 10 ] وبها يشير إلى : مراتب ما سوى الله وهي ثلاث مراتب : الجمادات والحيوانات والروحانيات ، فإذا تقرب إلى الله بعدم الالتفات إلى ما سواه يتقرب إليه بموهبة الغلام الذي هو القلب الحي بنوره ، فافهم جدّاً . قوله : { سَوِيّاً } [ مريم : 10 ] أي : متمكناً في هذا الحال من غير تلون { فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ ٱلْمِحْرَابِ } [ مريم : 11 ] فخرج زكريا الروح من محراب هواه وطبعه على قوم صفات نفسه وقلبه وأنانيته . { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } [ مريم : 11 ] أي : كونوا متوجهين إلى الله معرضين عمَّا سواه { آنَآءِ ٱلْلَّيْلِ } [ طه : 130 ] { وَأَطْرَافَ ٱلنَّهَارِ } [ طه : 130 ] ؛ بل بكرة الأزل وعشي الأبد . ثم أخبر عن الخطاب ليحيى يأخذ الكتاب بقوله : { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَابَ بِقُوَّةٍ } [ مريم : 12 ] يشير إلى يحيى القلب ؛ أي : خذ كتاب الفيض الإلهي بقوة ربانية لا بقوة إنسانية ؛ لأنه خلق الإنسان ضعيفاً وهو عن القوة بمعزل و { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلرَّزَّاقُ ذُو ٱلْقُوَّةِ ٱلْمَتِينُ } [ الذاريات : 58 ] . { وَآتَيْنَاهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيّاً } [ مريم : 12 ] أي : آتيناه العلم والحكمة وهو في صبايته ، وخلقه إذ خلق الله الخلق في ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره ، فالقلب موضع قبول الرشاش من الروح ، والعلم والحكمة من نتائج ذلك الرشاش إلا أن الله تعالى خلق للقلب صورة وهي الصفة الصنوبرية ، وقد خلقها من الذرة التي أخذها من ظهر آدم يوم الميثاق ، وأنه تعالى جعل له روحاً من انصباب رشاش النور من الروح الإنساني وهذا يختص بقلوب الذين أنعم عليهم بإضفائه رشاش النور { مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـٰئِكَ رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] ولهذا الاختصاص صار يحيي القلب مخصوصاً بالحكمة . وبقوله : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } [ مريم : 13 ] أي : آتيناه رحمة من عندنا نظيره قوله في خضر { آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } [ الكهف : 65 ] ، وبقوله : { وَزَكَاةً } [ مريم : 13 ] أي : تزكيةً وتطهيراً منا عن الالتفات بغيرنا { وَكَانَ تَقِيّاً } [ مريم : 13 ] أي : يتقي بنا عمَّا سوانا { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ } [ مريم : 14 ] أي : بوالد الروح وبوالدة القالب : * فأمَّا بره بوالد الروح : تنويره بنور الفيض الإلهي إذ هو محل قبول الفيض كما قررنا ؛ لأن الفيض الإلهي وإن كان نصيب الروح أولاً ولكن لا يمسكه للطافة الروح ، بل يعبر عنه بالفيض ويقبله القلب ويمسكه ؛ لأن فيه صفاء وكثافة ؛ فبالصفاء يقبل الفيض وبالكثافة يمسكه ، كما أن الشمس فيضها يقلبه الهوى لصفائها ، ولكن لا يمسكه للطافة الهواء ، فأمَّا المرآة فتقبل الشيء بصفائها ويمكّن لكثافتها ، وهذا من أسرار حمل الأمانة التي حملها الإنسان ، ولم يحملها الملائكة المقربون ، فافهم جيداً . * وأمَّا بره بوالدة القالب : فباستعمالها على وفق أوامر الشرع ونواهيه ؛ لينجيها من عذاب النار ويدخلها الجنة { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } [ مريم : 14 ] كالنفس الأمارة بالسوء { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ } [ مريم : 15 ] يشير إلى أن القلب السليم المقبل المقبول في حراسة سلام الله وحفظه في كل حال من حالاته حالة ولادته ؛ أي : ابتداء خلقه { وَيَوْمَ يَمُوتُ } [ مريم : 15 ] أي : حين يموت باستعمال المعاصي { وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } [ مريم : 15 ] أي : حين يتوب إلى الله فيحييه الله حياة طيبة . فأمَّا فائدة سلام الله حين يموت بالمعاصي في حق القلب ، فبأن يكون في موته وإحيائه نوع ابتلاء يكون سبب تربية وترقية عن مقامه ، وتنقية عن بعض الآفات والعيوب مثل : العجب والكبر والرياء والسمعة وغيرها .