Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 19, Ayat: 16-21)

Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم أخبر عن مريم وحالتها مع من في الأرض دل حاله بقوله : { وَٱذْكُرْ فِي ٱلْكِتَابِ } [ مريم : 16 ] الخطاب مع قلم القدس ؛ أي : الكتب في أم الكتاب الذي عنده مكتوب في الأول حالة { مَرْيَمَ إِذِ ٱنتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا } [ مريم : 16 ] أي : انفردت من أهل الدنيا وتنحت { مَكَاناً شَرْقِياً } [ مريم : 16 ] وهو القلب المشرق بنور ربه { فَٱتَّخَذَتْ مِن دُونِهِم حِجَاباً } [ مريم : 17 ] من ذلك النور { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } [ مريم : 17 ] وهو نور كلمة الله التي يعبر عنها بقوله : كن ، وإنما سمي نور كلمته روحاً ؛ لأنه به يحيي القلوب الميتة كما قال تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ } [ الأنعام : 122 ] فتارة : يعبر الروح بالنور ، وتارة : يعبر عن النور بالروح كقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا ٱلْكِتَابُ وَلاَ ٱلإِيمَانُ وَلَـٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } [ الشورى : 52 ] فأرسل الله إلى مريم نور كلمة كن { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } [ مريم : 17 ] كما تمثل نور التوحيد بحروف : لا إله إلا الله ؛ لانتفاع الخلق به . والذي يدل على أن عيسى عليه السلام من نور الكلمة قوله تعالى : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَىٰ مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } [ النساء : 171 ] أي : نور من نور إلقائه ، فلمَّا تمثلت الكلمة بالبشر أنكرتها مريم ولم تعرفها فاستعاذت بالله منه { قَالَتْ إِنِّيۤ أَعُوذُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } [ مريم : 18 ] يعني : إنك إن كنت تقيّاً من أهل الدين فتعرف الرحمن ولا تقربني بإعاذتي إليه ، وإن كنت شقياً فلا تعرف الرحمن فما تعوذتُ منك بالخلق ، فأجابها وقال : { إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } [ مريم : 19 ] طاهراً من لوث ظلمة النفسانية الإنسانية { قَالَتْ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } [ مريم : 20 ] أي : إذا لم يمسسني بشر قبل هذا { وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } [ مريم : 20 ] ليمسسني بشر بعد هذا بالزواج وبالنكاح ؛ لأني محررة محرَّم عليَّ الزوج { قَالَ كَذٰلِكَ } [ مريم : 21 ] الذي تقولين ، ولكن { قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 21 ] أن أخلق ولداً من غير ماء منيِّ والد فإني أخلقه من نور كلمة كن كما قال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ ٱللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] دلالة على قدرتي بأني قادر على أن أخلق ولداً من غير أب ، كما أني خلقت آدم من غير أب وأم ، وخلقت حواء من غير أم { وَرَحْمَةً مِّنَّا } [ مريم : 21 ] أي : نرحم به من نشاء من عبادنا . واعلم أن بين قوله : { وَرَحْمَةً مِّنَّا } [ مريم : 21 ] وبين قوله : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [ الشورى : 8 ] فرق عظيم وهو : أنه تعالى إذا أدخل عبداً في رحمته يرحمه ويدخله الجنة ، ومن جعله رحمة منه يجعله متصفاً بصفته . ثم اعلم أن بين قوله : { وَرَحْمَةً مِّنَّا } [ مريم : 21 ] وبين قوله في حق نبينا صلى الله عليه وسلم : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] فرق عظيم وهو : أن في حق عيسى عليه السلام ذكر الرحمة مقيدة بحرف من ، ومن : للتبعيض ، فلهذا كان رحمة لمن آمن به ، واتبع ما جاء به إلى أن بعث نبينا صلى الله عليه وسلم ثم انقطعت الرحمة من أمته بنسخ دينه ، وفي حق نبينا صلى الله عليه وسلم ذكر الرحمة للعالمين مطلقاً ؛ فلهذا لا تنقطع رحمته عن العالمين أبداً . أمَّا في الدنيا فبأن لا ينسخ دينه ، وأمَّا في الآخرة فبأن يكون الخلق يحتاجون إلى شفاعته حتى إبراهيم عليه السلام ، فافهم جيداً . وفي قوله تعالى : { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } [ مريم : 21 ] إشارة إلى أن خلق عيسى عليه السلام على هذه الصفة كان في الأزل بمقتضى الحكمة القديمة مقدراً لإظهار القدرة على مثل هذا الخلق ، فإنه يخلق ما يشاء بقدرته .