Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 186-188)
Tafsir: at-Taʾwīlāt an-naǧmiyya fī at-tafsīr al-ʾišārī aṣ-ṣūfī
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم أخبر أنه مع عظم الشأن قريب بالإحسان بقوله تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } [ البقرة : 186 ] ، والإشارة فيها أن من يكون مخصوصاً بخصوصية عبادي يكون سؤالهم عني لا عن غيري ؛ ولأنه { إِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ } ؛ أي : إنما كان سؤالهم عني حين سألوك ؛ لأني كنت قريباً باللطف إليهم أقرب إليهم منهم بهم كقوله تعالى : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ ٱلْوَرِيدِ } [ ق : 16 ] ، { أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ؛ أي : صفتي أني أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ، { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي } [ البقرة : 186 ] ، كما إني أجيب لهم إذا دعوني ؛ ليكونوا موصوفين بصفتي في الإجابة ؛ { وَلْيُؤْمِنُواْ } [ البقرة : 186 ] ، إجابتهم أن يؤمنوا { بِي } [ البقرة : 186 ] بمعني الطلب ؛ أي : يطلبوني ولا يطلبون من غيري ، { لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ البقرة : 186 ] ؛ لكي يهتدوا بي ؛ إذ يسألونك عني ولا يسألونك عن غيري ، كما أن قوماً { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلأَنْفَالِ } [ الأنفال : 1 ] ، وقوماً { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ } [ البقرة : 220 ] ، وقوماً { يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلرُّوحِ } [ الإسراء : 85 ] فإن قيل فلم لا تستجاب بعض الأدعية وقد وعد الله الإجابة بقوله : { أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ، وبقوله : { ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] ، فالجواب عنه إنما لا تستجاب بعض الأدعية ؛ لأن الداعي ترك بعض أركانه وشروطه ، فإن للدعاء المستجاب أسباباً وشرائطاً وهي كثيرة منها ما يتعلق بالعموم كما مر ذكر بعضها وليس هاهنا موضعه ، ومنها ما يتعلق بالخصوص وهي التزكية والتحلية ، والإجابة موثوقة على تزكية الداعي فعليه أن يزكى البدن أولاً فليصلحه ولو بلقمة الحلال ، فقد قيل : الدعاء مفتاح باب السماء ، وأسنانه لقم الحلال ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " الرجل يطيل السفر يمد يده إلى السماء أشعث أغبر يقول : يا رب يا رب ومطعمه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك " ويزكي نفسه ويطهرها عن أوصاف البشرية والأخلاق الذميمة فإنه هو الأصل في الاستجابة ؛ لكونها قاطعات لطريق الدعاء وفي الحديث : " إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب " ، ويزكي نفسه عن رين تعلقات الإنسان من النفساني والروحاني ويصفيه بالأذكار ، وينوره بنور الأخلاق الرباني ، فإن هذه أسباب القربة ؛ لرفع الدعاء إلى الله تعالى ، كما قال الله تعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ } [ فاطر : 10 ] ويزكي الروح عن دنس التفات لغيره ؛ ليتعرض لنفحات ألطاف الحق ، ويزكي السر عن وخيمة الشرك بتوجهه إلى الحق في الدعاء ؛ لطلب الحق لا لطلب غير الحق ؛ ليستجاب دعاؤه ولا يخيب رجاؤه ، كما قال تعالى : " ألا من طلبني وجدني ومن طلب غيري لم يجدني " ، وإن الله تعالى وعد الإجابة بالدعاء فإني { أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ } ؛ أي : دعاءه ، { إِذَا دَعَانِ } ؛ أي : إذا طلبني ، وكذا قال تعالى : { ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] ؛ أي أطلبوني . وقال تعالى : { أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ } [ النمل : 62 ] ، والمضطر من لم يكن له غير الله أن يطلبه من الله فيكون مضطراً في طلب الله من الله فلا يطلب من الله غير الله ، فمن أضل ببعض هذه الشرائط في الدعاء فلم يلزمه الإجابة كمن أضل بركن من أركان الصلاة ، لم يلزمه القبول إلا أنه الجبار فيجبر كل خليل وكسر يكون في أعمال العباد وبفضله وكرمه ، وفي الحقيقة أن إفضاله مع العباد مقدم على أعمالهم ، وإنه ليعطي قبل السؤال ويتحقق مراد العبد بعد سؤاله بجميع النوال . ثم أخبر عن تفضله بالنوال قبل السؤال بقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ } [ البقرة : 187 ] ، والإشارة في تحقيق الآية أن لخواص الإنسان بحسب تزكيهم من الروحاني والحيواني تلوناً في الأحوال لا بد لهم منه ، فتارة يكونون بحكم غلبات الصفات الروحانية والواردات الربانية في ضياء نهار الروحانية النورانية ، ففي تلك الحالة لهم سكر يغنيهم عن المشارب النفسانية ، فيصومون عن الحظوظ الإنسانية ، وبقوا مع تلك الحالة لتلاشت نفوسهم بسطوات صفات الجلال ، وطاشت أرواحهم ، وما عاشت أبدانهم ، كما منَّ الله عليهم بقوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ مَنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ ٱللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } [ القصص : 72 ] . وتارة يكون بحسب الدواعي والحاجات الحيوانية مردودين إلى ليلة ظلمات الصفات الإنسانية ، وفي تلك الحالة لهم صحو يعيدهم إلى أحكام عادات طبائع الحيوانية ، ولو بقوا على تلك الحالة لماتت قلوبهم بهجوم الآفات وفات لهم من الحقوق ما فات ، كما قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمُ ٱلنَّهَارَ سَرْمَداً إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [ القصص : 72 ] ، فخصهم الله تعالى بنهار في كشف أستار الرحمة ؛ ليسكنوا فيها ويستريحوا بها . وقال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ ٱلصِّيَامِ } [ البقرة : 187 ] ؛ أي : ليلة تستريحون فيها وتستعدون لصيام غداتها ؛ يعني : إن لم يكن ليلة الصيام ما أحل لكم فيها { ٱلرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَآئِكُمْ } ، وهي التمتعات النفسانية من الأمتعة الدنياوية المسخرة للنفس ؛ لنفوذ تصرفها فيها تصرف الرجال في النساء لاستيفاء الحظوظ تقوية على أداء الحقوق ولا تكون مسخرة لها ؛ لينفذ فيها تصرفها ، { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 187 ] ؛ أي : التمتعات بالحظوظ الإنسانية ستر لكم ؛ ليحميكم عن حرارة شموس الشهود بلباس ظلمات صفات الوجود ؛ كيلا تحرقكم سطوات تجلي صفات الجلال ، { وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [ البقرة : 187 ] ؛ أي : بلباس صفاتكم الحميدة وأنوار أعمالكم الصالحة تسترون معايب الدنيا وتمتعاتكم بمتاع شهوات النفس ولذاتها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " نعم المال الصالح للرجل الصالح " ، والمال هو الملعون الذي قال صلى الله عليه وسلم فيه : " الدنيا ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه " ، فصار الملعون صالحاً ولقب بنعم إذا آمن بصلاح الرجل الصالح . { عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ } [ البقرة : 187 ] في خصوصية البشرية ، { تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } [ البقرة : 187 ] باستيفاء حظوظكم الحيوانية في ليالي الطلب من ضعفكم واستيلاء شهواتكم ، { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 187 ] بنظر العناية إلى قلوبكم ، { وَعَفَا عَنْكُمْ } [ البقرة : 187 ] ؛ أي : محا آثار ظلمات صفاتكم بأنوار هدايته عنكم ، { فَٱلآنَ } [ البقرة : 187 ] ؛ أي : في هذه الحالة ، { بَٰشِرُوهُنَّ } [ البقرة : 187 ] ، رخص لكم في مباشرة الحظوظ النفسانية بقدر الحاجة للضرورة الإنسانية بالأمر لا بالطبع ، { وَٱبْتَغُواْ } [ البقرة : 187 ] بقوة هذه المباشرة ، { مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَكُمْ } [ البقرة : 187 ] من المقامات العلية والدرجات الرفيعة ، { وَكُلُواْ وَٱشْرَبُواْ } [ البقرة : 187 ] ؛ أي : تمتعوا بالحظوظ ؛ لرفع الحاجات الإنسانية في ليالي الصحو ، { حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ ٱلْخَيْطُ ٱلأَبْيَضُ مِنَ ٱلْخَيْطِ ٱلأَسْوَدِ مِنَ ٱلْفَجْرِ } [ البقرة : 187 ] ؛ أي : تظهر آثار أنوار شمس صفات الجلال وتمحو ظلمات الصفات والآمال في نهار السكر ، { ثُمَّ أَتِمُّواْ ٱلصِّيَامَ } [ البقرة : 187 ] ، بالامتناع عن الاستمتاع عن المشارب الروحانية والحيوانية ، { إِلَى ٱلَّليْلِ } [ البقرة : 187 ] ؛ أي : ليل الصحو بعد السكر . فكما أن الرزق منقسم إلى حالة قبض وإلى حالة بسط ، فالأحوال أيضاً تنقسم إلى قبض وبسط وزيادة ونقص وجدب وخصب وفرق وجمع وأخذ ورد وكشف وستر وصحو وإثبات ومحو وفناء وبقاء وتلوين وتمكين ، قال قائلهم : @ كان سناءً لم يزل إذاً أبدا كان سناءً لم يكن إذا مضى @@ وقيل : @ إذا أكرمتني تجلَّى لطفٌ كأني لم أزل منكم سقيماً فإن فاجأني بخفي مكرٍ كأني لم أجد منكمُ نسيماً @@ { وَلاَ تُبَٰشِرُوهُنَّ } أي : وتشغلوا القلوب بالحظوظ ، ولا الأرواح بالاسترواح ، ولا الأسرار بالاستظهار عن الأغيار ، { وَأَنْتُمْ عَٰكِفُونَ فِي ٱلْمَسَٰجِدِ } [ البقرة : 187 ] ؛ أي : مقيمون في مقامات القربة والوصلة ، مجاورون في حظائر القدس ومجالس الأنس ؛ يعني : عند احتياج النفس بالضروريات الإنسانية في بعض الأوقات وإشغالها بها ، كونوا بالضرورة فيها ، وبالقلوب والأرواح والأسرار كائنين مع الحق بعيدين عن الخلق ، وهذا مقام أهل التمكين ، فإنكم إن كنتم مشاغيل بنفوسكم كنتم محجوبين فيكم بكم عنا ، وإذا كنتم قائمين بنا فينا فلا تعودوا منا إليكم ، { تِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ } [ البقرة : 187 ] ؛ أي : تلك القربة والوصلة والاعتكاف والتبتل إلى الله حدود الله ، { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } [ البقرة : 187 ] ، بالخروج عنها يا أهل الكشوف والعكوف ، ولا تقربوها بالدخول فيها يا أهل الكسوف والخسوف . @ بأي نواحي الأرض أبغي وصالكم وأنتم ملوك ما لقصدكم نحو @@ { كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 187 ] يظهر الله ، { ءَايَٰتِهِ } [ البقرة : 187 ] ودلائله وبراهينه ، { لِلنَّاسِ } [ البقرة : 187 ] أهل الصدق والطلب ، { لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ البقرة : 187 ] بأنوار العواطف والجود عن ظلمات شركة الوجود . ثم أخبر عن فساد الأحوال من أكل الأموال بقوله تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَاطِلِ } [ البقرة : 188 ] ، والإشارة فيها أن الأموال خلقت لمصالح قوام النفس ، وأن النفس خلقت للقيام بمراسم العبودية ؛ لقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ ٱلْجَنَّةَ } [ التوبة : 111 ] ؛ ليعلموا أن ليس لهم الأموال والأنفس وإنما هي لله ، فلا تتصرفوا في الأموال والأنفس إلا بأمر الله تعالى ، ثم قال تعالى : { وَلاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ } [ البقرة : 188 ] ؛ أي : الأموال التي اشترى الله منكم بالباطل ؛ أي : بهوى النفس والحرص والشهوة والإسراف على الغفلة ، وكلوا بالحق بالأمر بالقناعة والتقوية على الطاعة والقيام بالعبودية . { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى ٱلْحُكَّامِ } [ البقرة : 188 ] ؛ أي : ولا تدلوا إلى الحكام ؛ وهي : النفس الأمارة بالسوء ، { لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ } [ البقرة : 188 ] ؛ أي : من الأموال التي خلقت للاستعانة على العبودية ، { بِٱلإِثْمِ } [ البقرة : 188 ] ؛ أي : بالقطيعة والغفلة مستعيناً بها على المعصية كالحيوانات والبهائم ؛ لتأكلوا بحظ النفس البهيمية فيكون حالكم ومرجعكم ومثواكم النار ؛ لقوله تعالى : { وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } [ محمد : 12 ] ، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } حاصل الأمر ولا تعملون .